رؤية وابداع

رتوش

أمل منشاوي

“لم أذق يومًا الطعم الحقيقي للحب، كل شيء تعلقت به في حياتي كان يذكرني بشيء قد مضى، شيء لم أكن أعلم وقتها أنني أحبه” كانت الفرشاة تنساب بتلقائية في خطوط منحنية ومتعرجة على الورقة البيضاء وهي تتكلم بطريقتها الحالمة، تختلط الألوان بحرفية ثم تخلق منها حياة، قصت شعرها وثبتته فوق رأسها بقلمها الرصاص، قبضت بأسنانها الصغيرة والبيضاء على فرشاة وأمسكت الأخرى بأناملها الدقيقة، تناثرت بقع من الألوان على نحرها وصدرها المرمري المكشوف من فتحة فستانها الأزرق القصير، تخلت عن حذائها الطويل وجلست على كرسي بلا ظهر رافعة إحدى رجليها على أحد حواجزه السفلية بينما تلمس الأرض بأطراف أصابع القدم الأخرى، يستمع إليها في صمته المعتاد، لا يتكلم أثناء العمل إلا إذا استدعى الأمر، ظل سنوات طويلة يستمع فيها دائمًا لمن يكون معه في المرسم، خمسة أعوام مضت منذ أول لقاء جمع بينهما عندما كانت تبحث عن موديل بمواصفات انطبقت عليه، لم تصدق أذنيها وهو يعرض نفسه عليها لترسمه، جسده الممشوق، عضلاته الفتية، شعره الأجعد وأنفه المدبب، نظرته الماكرة والحادة، تجاعيد وجهه التي تمنحه وقارًا ولا تشي بعمره الحقيقي، صورة قناص ماهر جعلته محور لوحتها الأولى، أعجبتها فكرة أن رسامًا يرسم رسامًا آخر كما يراه هو، تذكرت ردة فعله عندما رسمته كصياد فابتسمت

_افتقدتك في العامين الماضيين، لماذا رحلتِ؟

نطق جملته الخاصة الأولى منذ أن بدءا العمل منذ عدة أيام، لثمت عبارته المنتظرة أذنيها فانفرج ثغرها عن ابتسامة قطعتها حتى لا تغير تعابير وجهها، قالت دون أن تلتفت إليه

_كيف وجدتني؟

_ رأيتك في مقهانا القديم، سرت خلفك وعرفت بيتك الجديد

_ ما زلت تذهب إلى هناك! مع من كنتَ؟

_لا أحد، أذهب وحيدًاوأعود وحيدًا… أستنشق عبير الماضي… ثم أعود!

صمت هنيهة ثم قال

_ من كان معك؟

_صديق! أجابت باقتضاب ملحوظ، نظر نحوها نظرة سريعة يريد أن يتأكد من شيء ما، أعاد عينيه إلى اللوحة أمامه وأضاف خطًا جديدًا، يعرفها حين تكذب، يعرف كيف يجلس الغرباء وكذلك العاشقون، قال بغير اهتمام

_أتحبينه؟

لم تجب، بعد لحظات وضعت الفرشاة وبالتة الألوان بانفعال حاولت ألا تبديه ولكن لم تفلح، قالت “تعبت”

وقفت تُليّن عضلات جسدها بحركات غنجة، تقدمت نحوه بخطوات هادئة، كان ما يزال يضع رتوشه الأخيرة في لوحته، أحاطت خصره بذراعيها دون أن تنظر في اللوحة وأراحت خدها على ظهره، سألته بغنج

_لماذا طلبت أن ترسمني؟

_ هذا اتفاقنا… أنسيتِ؟!

فكت ذراعيها عن خصره وراحت تتأمل نفسها في لوحته، ارتسم على وجهها سؤال غاضب لاحظه سريعًا وفهم ما تريد قوله، قال بغير اهتمام

_ هكذا أراك.

_منذ متى؟.

أشعل سيجارة وراح يتأمل معها صورتها

_منذ أول يوم!

_ حقير!

لم يغضب من ثورتها، يعلم أن المرأة تكره أن ترى حقيقتها في عين الرجل، تأمل اللوحة في صمت ثم أعاد سؤاله من جديد

_أتحبينه؟

وقفت قبالته ونظرت في عينيه بغير كلام، تدفقت على رأسها ذكريات شتى، منذ أن أخبرها أنها ملاكه الذي يغتسل في عينيها من رجس الظنون، حتى اليوم الذي رأته في أحضان صديقتها، منعها كبرياؤها آنذاك من العتاب، رحلت في صمت، تعلم أنه لم يعدها بشيء وكذلك هي، وعندما رأته في وجوه كل من حولها تأكدت أنها كانت تحبه، عاودتها خيبة الأمل من جديد عندما التفتت للوحة، رسمها كعاهرة تتلاعب بالألوان، لبست حذاءها وارتدت معطفها الثقيل وقبل أن ترحل التفتت إليه وقالت بأسف

_ رأيتك فيه!

اقرأ أيضاً: 

سجين

نهاية المطاف

 لكل راجل دق بابها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا