رؤية وابداع

قراءة تأويلية بقلم / محمد البنا لنص * راهبة في محراب العشق * للأديبة / أمل منشاوي

أمل المنشاوي

أيقظتني حرارة الشمس فقمت مدهوشة، ثيابي المعفرة تخبرني أنني قادمة من سفر طويل، ولكن … متى سافرت؟ وإلى أين؟

تساءلت مندهشة، ذاكرتي كعادتها لم تسعفني بالجواب، حاولت النهوض فانتبهت لندوب متفرقة في جسدي النحيل، تحسستها … الندوب لا تؤلمني لكنها غيرت لون جلدي الذي كان أبيضا مشربا بحمرة، قلت في نفسي سيداويها الوقت! ولكن … متى نحلت؟ تلفت حولي، المكان مقفرًاف، باب القلعة العملاق موصد في وجهي، تعجبت … لماذا أنا لست بالداخل؟ تحاملت على نفسي ونهضت رغم الألم المتفرق في أنحاء جسدي والذي لم أحدد له مكانًا أو سببًا، هرولت نحو الباب الموصد، دفعته بيدي الضعيفتين، الباب عصي، قلت بصوت حاد لكنه خرج واهنًا ” يا حراس، افتحوا الأبواب، من أمركم أن تغلقوها في وجهي؟ أنا سيدة القلعة!.. أنا راهبة المحراب!” بدد السكون هدري، حتى صدى الصوت لم يجبني، تذكرت أنه ليس ثمة حراس، الحارس الوحيد لقلعتي كان صدّيق، تلفت حولي ” أين ذهب؟” تساءلت مرتاعة، من كوة بالباب أبصرته نائمًا تحت شجيرة، عيناه المغمضتان يسيل منهما الدمع، ناديته بأسى” أيها الحارس، لماذا أنت نائمًا، وعلام البكاء؟” رفع رأسه ببطء أنصت مليًا يتأكد من الصوت، تهلل وجهه، نهض متحاملًا ” ها قد عدتِ” قال بفرح، فتح المزلاج فانفرج الباب فرجة تكفي عبوري، حاولت الدخول لكنه فجأة سده بساعده الفتيّ، نظرتي الغاضبة كادت تفتك به، أشار بعينيه إلى قدمي العاريتين واللتين غطاهما الوحل، شهقت بخجل واختبأت خلف الباب” أين كنت أسير؟” سألت نفسي بصوت خفيض، رفعت إليه عينين متوسلتين وسألت” ماذا أفعل؟” أشار ناحية اليمين وقال” هل نسيتي البحيرة؟” تهلل وجهي، هرولت نحوها، ألقيت بجسدي فيها، أفقت من غفوتي، الأوراق تتناثر أمامي على سطح مكتبي، القلم ما زال بيدي، نور ينبعث من داخلي يضيء عتمة المكان، وصوت الحارس قادم من العمق، يقول بصوت رصين” هيا، ادخلي “!.

#امل منشاوي..الفيوم في ١١ يونيه ٢٠٢٢

………………..

القراءة

بدايةً من لم يضع العنوان ( راهبة في محراب العشق) نصب عينيه متلازمًا مع كل جملة نصية حواها المتن بين دفتيه، فلا يلومن إلا نفسه..

عنوان محكم مغلق آحادي التفسير آحادي الدلالة..راهبة ..امرأة وهبت نفسها ( روحًا وجسدًا ) للتعبد في محراب، عافت الدنيا بمباهجها ومادياتها وأحزانها، وألتجأت بمحض إرادتها لائذةً لمحراب معبود (مجازا)، فعن أي المحاريب نتحدث ؟..والمحاريب تبتل وتطهر وصلاة وقيام، والمحاريب بكاء وتألم وندم وعقاب ذات بغية التطهر، زرعه الإخلاص وطرحه الخلاص، لنر..يالله!..أنه محراب عشق، إذًا الراهبة عاشقة، والرهبنة عشق، والمحراب واحة لقاءٍ بعاشق.

هى خارجه!..لا تدري لم!، ندوبٌ تغطي جسدها فيتغير لونه من بياض مشوب بحمرة ( نقاء وطهارة ) إلى لون آخر ( سكتت عنه )، الندوب لا تؤلمها حسيًا، وكل الألم تشربته روحها، فتمخض السؤال مندهشًاومستغربًا بل ومستنكرًا ..لم هى هنا ؟.. لم هى خارج القلعة ( المحراب) وهى سيدتها؟!!

( انا سيدة القلعة ) جملة تقريرية أحسنت القاصة توظيفها، فوقع تأثيرها في معية القارئ كصرخة استنكارية توكيدية لا ولن ينكرها عليها، إذ صرخت بها في وجوهنا ووجوه الحراس والدواب والطين والشجر والفضاء على اتساعه( أنا سيدة القلعة..لم أنا خارجها؟!!)، وتمضي بنا الكاتبة إلى حيث تريد، ونحن نتبعها مسلمين لها قيادنا، لتفاجئنا أن للقلعة حارسٌ واحد ( صدّيق)..هو الصادق إذًا! وهو الناصح الذي لم تنصت لنصيحته فخالفتها..زلت هى، وهو بكى، ملأتها الندوب، ملأت عينيه دموع، أبقت ونام باكيًا مطمئنًا لعودتها…هو الصادق الناصح وهو العاشق أيضًا،فلا يضم المشهد غيره، وي..كأن الكاتبة تعمدت خلو المشهدية تمامًا إلا منه، وي..كأنها تقول لنا ” هذا من أعشقه، ولا ولن ترى عيني غيره، لا ولن أسلم نفسي إلا له، أنا سيدته وهو مالك ناصيتي”.

يأذن لها بالعودة، ويمنعها من الدخول إلا طاهرة، طاهرة كما كانت قبل أن تصبأ، طاهرة قبل أن تغادر محرابه وتتلوث قدماها في طين واحة غرّتها ثمارها وأشجارها، غرر بها أباليسها كما غرر إبليس بآدم وحواء في بدء الخليقة، فكان العقاب الإلهي بالخروج من الجنة، والهبوط للأرض حيث الشقاء والكبد..خرجت من القلعة واستوت في ماء آسن، فكان العقاب..ندوب وتلوث…اذهبي وتطهري قبل أن تدخلي قلعتي ( محرابك وجنتك وأنت سيدتها وسيدتي )..راهبة وعاشق ومحراب عشق .

نص رمزي بامتياز، لم يكتف بالرموز ( راهبة / صديق/ قلعة/ ندوب/ تلوث) وإنما أتكأ بجدارة على جدار أقوى وأكثر اتساعًا، ألا وهو الرمزية الكلية، رمزية السرد وتأويله، رمزية الرموز ودلالاتها، رمزية المشهدية ودقة تصورها بعدسة لامة وليس عدسة مشتتة.

لتختم النص باقتدار ومهارة ودهاء أغبطها عليه ( المكتب والأوراق والقلم..وشيطان الأدب )، وتضع بذلك النقاط فوق الحروف، وتتفكك طلاسم الرموز، فالقلعة هى ساحة الإبداع، والسيدة هى المبدعة، والأوراق والأقلام مقومات سيادتها، وسيادتها هى طهارتها ( موهبتها) والصديق هو الملهم شيطان الإبداع، تمردت عليه ففقدت طهارتها وتلوثت، وعندما آبت تقبلها وأعاد لها مكانتها.

نص متجدد متنوع الدلالات لما فيه من رموز جزئية ورمزية كلية، ونمط سردي جديد على الكاتبة، لم ألحظه فيما سبق من قراءاتي لنصوصها، ولكن البصمة الخاصة المميزة لها، تنضح بما لا يدانيه شك، فالتدفق الوجداني جلي، والقلق النفسي واضح، ودفء المتن محسوس، كأنما تقول لنا ” أنا من كتبت الأستاذ والدمية ودبابيس..أنا ذاتها التي كتبت ..راهبة في محراب عشق.

محمد البنا..القاهرة في ١٢ يونيه ٢٠٢٢

إقرأ أيضاً:

هجاء يوم الرحيل

 للعابرين

سِت بمَّيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا