رؤية وابداع

وفاء

بقلم إسماعيل الطيب

استيقظ في الثامنة صباحاً كعادته منذ سنوات دون استخدام منبه، فقد كان كل شيء في حياته يسير أتوماتيكيا بانضباط غريب كما لو كان إنسانا آليا تم برمجته للقيام بنفس المهام اليومية في نفس التوقيت تقريباً بشكل أشبه بالروتين.
فهو يقضي يومه بعد بلوغ سن التقاعد في مطالعة الصحف صباحا ثم التجول بين فضائيات الأخبار وقراءة بعض الكتب والنشرات العلمية حتى يحين موعد عيادته في المساء التي لم يتخلف عنها يوماً واحداً رغم تجاوزه السبعين من عمره، فهي المتنفس الوحيد الذي يخرجه من روتينه اليومي ويجعله يخالط البشر بعد أن اعتاد أن يعيش وحيداً لسنوات طويلة بعد زواج ابنته الوحيدة.
دائماً يشعر أنه يزهد كل شيء حوله، حتى أنه ترك شقته الكبيرة في منزله المكون من ثلاثة طوابق واختار العيش في غرفة واحدة أعلى سطح منزله.
إنها غرفة بسيطة جداً تخلو تقريباً من الأثاث والأجهزة المنزلية إلا من ثلاجة صغيرة لها بابا واحداً وبوتجاز صغير ذو شعلتين فقط، وسرير يسع فرداً واحداً، وعلى الحائط المواجه للسرير صورة كبيرة لامرأة جميلة في أواخر العقد الثالث من عمرها موضوعة داخل بروز ذهبي أنيق وعليها شريط أسود مائل في الركن أيسر الصورة.
ما أن فتح عيناه حتى رآها تبتسم له كعادتها، نهض من فراشه مسرعا، وقف أمامها في وضع انتباه كمجند يستعد لأداء التحية العسكرية لقائده.. تأمل ابتسامتها الرقيقة لثوانٍ ثم خاطبها قائلا.. صباح الخير يا دكتورة فاطمة..
هكذا اعتاد أن يناديها طيلة خمسون عاما كاملة منذ حادثها أول مرة في مدرج كلية الطب بجامعة القاهرة عام 1970.
لم يشعر يوماً أنه يحادث نفسه أو أنه يكلم صورة معلقة على الحائط لا تفهم ما يقول، وكيف لا وقد اعتاد أن يحكي لها تفاصيل يومه بالكامل، وأن يبث لها شكواه وهو يراها تنصت له باهتمام بالغ وترد عليه أحياناً وتشاركه رأيه.
جلس على حافة سريره وأمسك بألبوم صورهما الموضوع على منضدة خشبية قديمة بجانب السرير، وأخذ يقلب صورة تلو الأخرى ويتذكر قصة كل صورة، استعاد شريط ذكرياته كاملاً ثم انهمر في البكاء بشكل هيستيري، وانتابته حالة حنين للماضي، تمنى لو يعود به الزمان للوراء ليحادثها أو ليتحسس حتى خصلات شعرها..
لا يعرف كم من الوقت مر وهو على هذه الحالة، ولكنه كان يعرف شيئاً واحداً.. أنه يفتقدها وبشدة.
التقط هاتفه المحمول.. دخل إلى سجل المكالمات الأخيرة واختار اسم دكتورة فاطمة ثم ضغط اتصال.. رنات متتابعة ولا أحد يجيب..
عاود الاتصال مرات ومرات.. ولا إجابة..
انتابته حالة من اليأس وخيبة الأمل ظل على إثرها شاردا لمدة تجاوزت العشرون دقيقة حتى انتبه على صوت هاتفه، التقط الهاتف سريعاً ونظر إلى الشاشة فوجد اسمها.. دكتورة فاطمة ،فأجابها قائلا.. صباح الخير يا دكتورة فاطمة
-صباح الخير يا بابا.. معلش كنت في العمليات.. البس واجهز نص ساعة وأكون عندك..
تهللت أساريره و عاود البكاء مرة أخرى ولكنها دموع الفرح..
فاليوم هو 21 مارس.. عيد الأم أحد أهم المناسبات التي لم يتخلف فيها عن زيارة قبرها لمدة تجاوزت الثلاثة عقود،تماماً كما يفعل في يوم عيد ميلادها وذكرى وفاتها وذكرى زواجهما.
بدل ملابسه في دقائق معدودة وكان كشاب ذاهب لمقابلة حبيبته، هبط إلى الطابق الأرضي وانتظر في مدخل العقار وهو في كامل أناقته والفرحة تملأ عيناه كطفل صغير ذاهب لصلاة العيد مرتديا ثيابه الجديدة.
وفي خلال دقائق كان أخبر الجميع أنه ذاهب لزيارة الدكتورة فاطمة، حتى جاءت ابنته فركض ناحيتها مبتسما كطفل صغير ولكن في السبعين من عمره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا