رؤية وابداع

“اعتزال ” قصة قصيرة

بقلم : أحمد فوزي

8

خ8

.خخيمة كبيرة سطت على الكون كله .

القمر المنير لم يعكس سراج الشمس فلم يعد حتى نورًا تهتدي به السابلة و لا القاعدة .

يقف رجل طاعن في سنه يتكيءُ على عكازٍ عتيق صلب واقف على إحدى القبور يقرأ الفاتحة على أحد القابعين في ظلمات القبر .

و يتلو قوله تعالى :

الحمدُ للّٰه ربِّ العالمينَ . الرحمَّن الرحيمِ . مالكِ يوم الدينِ .
إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعينَ . ٱهدنا الصراط المستقيم .
و تلعثم و توقف.
ما إن ذكر قوله تعالى ٱهدنا الصراط المستقيم إلا و توقف
كأنه يتذكر شيئًا ما .

 

من أعوام مضت كان هذا الطاعن في فخذ الشباب قارب على نهاية الاربعين راكبًا عربةً كبيرة في طريق مظلم و الليل خيَّم بظلماته و لم يبقَ برجٌ من البروج مضياءٌ يهتدي به من الكحل المسرمد .

تلك العربة السيَّارة في طرقها المظلمة تحوي في بطنها الراكبين و هم لصوص و زعيمهم ذلك الرجل الأربعيني .

علموا أخبارًا أن قرية ما فيها ثروات لا إحصاء لها و لا عدد .
و على ذلك فإن كل لص منهم يحمل كثيرًا من الأماني لتحقيقها بعد السرقة .
فهم أرباب أسرة و كل منهم يريد بثقافة أهل الشرق تأمين مستقبل أبنائهم .
ما جعلهم لا يتأخرون فينة واحدة لسرقة البيوت و القرى و الناس .

 

و العربة تعلم مسارها جيدًا تسير مهرولة تجاه بغية سائقيها ؛ تعطلت العربة في الطريق .
و سط الطين و الرماد المبلل الذي نتج عن نهار مطيرو عواء الكلاب المنتشرة في الشوارع فذاك الشتاء موسم تزواجهم ، و مواء القطط و خرير الأمواه المتبقية إثر الغندق المتكرر و ما تبقَ من قطرات الندى فوق القصور و الأكواخ .

 

ما جعل الاستنجاد بأهل القرية شبه محال .
حتى خرج في منتصف الطريق رجلٌ بشوشٌ على سميائهِ آمارات الصلاح و النُبل .
توقف بُرهة يتأمل حال الذين يستنجدون بالصغير و الكبير .
كما أنهم أيضًا غُرباء عن القرية فالذي زرع الفضول في قلب الرجل الصالح .
و همَّ الرجل الصالح بمساعدتهم فقد أيقن أنهم أبناء سبيل .
فهم إذًا مسافرون في الليل قد أضلُّو السبيل ما جعلهم يطلبون النجدة .

 

جاء الرجل الصالح لهم فساعدهم في عطل عربتهم و كان له كوخ يتعبد فيه كل نصف عام كنوع شبيه بالاعتكاف و مادام مدته تطول فهو إذن يحمل في الكوخ احتياط مؤونة شهر كامل .
و هو في أول منتصف عامه و بذلك فإن الطعام و الشراب و كل مستلزم بشري متوفر و أكثر .

 

لذلك قام عبد القادر _ الرجل الطيب _ بإكرام العابرين في الطريق ، بلا و هو المعروف بالكرم و المساعدة .
إذ هو قد أجبر عليهم المساعدة و آلَّا يذهب نفر منهم و بطنه فارغة من الشبع .
و فوق ذلك أعطاهم من المؤونة و الطعام ما يكفي حاجتهم جميعًا لأيام .
فرأى الزعيم ما كان من كرم و نُبل عبد القادر فعزم على التوبة مِمَّا بُليَّ به من السرقة و الكف عن أكل مال الحرام .

ذهب عبد القادر يحيي الناس و هم راحلون و في نفسه الرضا مِمَّا و هم يحملون الجميل حِمل الجمال للأسفار الثِقال .

 

و أكملوا مضيهم نحو بُغيتهم و هل لهم بغية ثانية غير السرقة ؟
فمنهم أبٌ يريد الوفر لأولاده و زوجه شريكة حياته .
و منهم الزوج الجديد التي تبثُّه زوجته الهموم و في شكاية الهم تورية للمعايرة على التقصير كأنه ليس مثل الأزواج الآخرين الذين يجيبون حاجاتهم أزواجهن في طُرفة الجفن كعفريت سليمان إذ أتىٰ بعرش بلقيس .

و منهم الابن الضال و ما هو بضال إذ كان الأب لا يحتويه و الأم لا تراضيه فهو على حال غدى جافيًا القلب فيه ينبض فقط ؛ فلا يشعر بالأسى و الفرح و لا بالسعد و الترح .

يفعل السيئة انتقامًا من نفسه و من العالمين و ما شكواه إلَّا تقصير في فعل الخبيث من الأفعال فيظل على حاله لا يعبأ هم الحرام و أُكله بلا ؛ فهو مثل الهشيم قُرب نار محمومة لا تزيد اللهيب إلا لهيبًا .

 

اقتربو من بيت ما من شاكلته جميل على زينته و زخارفه آثار الثرى .
فعزم زعيهمهم أن مهمة اليوم في هذا البيت .
و إذ الطريق ظُلمات و لا وجود للنور غير كُحل الليل ؛انكبَّ هؤلاء على البيت انكباب الضباع على الريم .

الكل في زواية مختلفة ،البعض يتسلق فوق سقف البيت و الآخر يرواغ إلى الشبابيك و آخرون يغيرون على باب البيت ، فكسروا الأبواب و تصاعدات الصراخات فكانت امرأة تصرخ و تستنجدُ و الاطفال يبكون من فزعات و هول عظيم .

فما كان من مجموعة اللصوص إلا القضاء على المرأة و أولادها إلا أن ظهر رجل في كحل الظلام يعاركهم.

 

يبان في الظلمات أنه جيش جرّاء و لكنه رجل مفرد يقاتل كأنما قائد كتيبة في غزوة بدر .
بكل ما في يده يضرب لا يهمه العدد و لا العتاد .
كيف و إنه يدافع عن عرضه و زوجه و أولاده .
و أخذ الذُعر في قلب الزعيم فأخرج مسدسه من جيبه و أطلق النار حتى قتل الرجل .

 

قُتل الرجل و هو ذا يسقط على الأرض بان وجهه و ظهرت ملامحه .
إنه عبد القادر .

الرجل الطيب المكرم المضياف الشهم الذي ساعد الناس حتى يكملوا مسارهم و هو ذا لا يعلم أثرهم المتتبع نحو ماله و عرضه .
و من قتله !؟؟!
ذلك الرجل الذي أُلهم التوبة من عبد القادر .
الذي أقسم أن يكون رجلاً شريفًا .
و آهٍ و آهٍ عمَّا تفعل الدنيا .

 

ظهرت لزعيم السارقين آمارة التوبة فما كانت إجابة الزعيم إلا قتل تلك الآمارة .

و بعد أعوام يأتي الرجل القاتل التائب لقبر من قتل و ها هو يكمل الفاتحة من بعد ما توقف .

” صراط الذين أنعمت عليهم . غير المغضوبِ عليهم .
و لا الضآلين ” .

تمت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا