مقالات

المتَحَيْوِنون

✍ د. باسم موسى

 

عنوان غريب هو، أعلم ذلك، ولكن سيتضح مقصوده خلال السطور، فنحن نتميز معشر البشر بتفضيل الله لنا على سائر المخلوقات، وقد جاء هذا التميز في جانبي الخَلق والخُلق، ففي جانب الخَلق مثلا، نرى جميعًا قاماتنا وقامات أندادنا منتصبة خلافًا للحيوانات، واختلاف خِلقة وجوهنا، وجلودنا عن باقي الأحياء المرئية، وهكذا، وبرز أعظم تميز في الخَلق في تكوين أمخاخنا بما تشتمل عليه من عقول وقدرات.

أما في جانب الخُلق، فقد كان التميز في الفطرة المبنية على حب الفضيلة والسعي لتمكينها، وفي تنوع الأخلاق في ذات النفس مع القدرة على تغييرها أو مقاومة التغير فيها، فنحن مثلاً قد نكتسب الوداعة أو الصبر أو الخبث أو العدوانية، أو نقاوم هاتين الأخيرتين لنظل في مستوى هذا التميز.

أما الحيوان فهو على طبيعة واحدة لا تتغير إلا نادرًا كدليل على إعجاز الله، ولكن القاعدة السائدة هي (طبيعة كل حيوان ثابتة)، فنحن لم نر سباعًا تركت الافتراس والعدوانية وقررت أن تصبح نباتية؛ لترحم الخلائق، ولا حملانًا قررت أن تجرب الصيد والافتراس بدلاً من الخنوع للراعي.

فطبيعة الحيوان إذن هي ثبات الطبائع، وطبيعة البشر هي تنوعها، والعقل بفطرته الأجنحة للفضيلة وبما أنشأ من عادات و عرف وقوانين ميزان لتحقيق سويتها وانضباطها ومقاومة انحرافاتها .

ولكن أبت نفسيات كثيرة من نفسيات البشر إلا أن تتحرر من قيود الإنسانية، وتكسر القاعدة فتختلف ثم تثبت على الاختلاف، وها نحن أصبحنا نستخدم مصطلح التنمر الشهير حديثا عند اعتداء شاذ عن الطبيعة على قرينه من البشر، هؤلاء هم أحد أنواع المتحيونون، الذين استبدلوا إنسانيتهم بطبيعة الحيوانات.

ونحن كثيرًا ما نرى ذلك المستسبع الذي يمد أنياب عدوانيته لكل من طالته من الناس، معلنا للجميع تميزه بالشراسة والفتك بكل من تلمح فطرته الضالة وأنيابه الآثمة.

وها هو ذلك المتثعبن الذي يختلس الخطى متسللاً من خلف إدراك الواثقين به ثم يحيطهم خانقًا من قبل أن تنتبه قواهم أو أصوات استغاثاتهم فيلوذون بها من لدغاته المهلكة.

أما تلك الحرباء؛ امرأة كانت أو رجل؛ فهي تخدع المحيطين بمظهر المتفق المتوافق حسب الظروف والمواقف، ولكن ما في النفس في النفس ثابت، حتى تحقق المآرب من صيد أو تملق أو نجاة .

ولننظر إلى هذا الجمل الذي إن تخلى عن طعامه وشرابه؛ لم يتخلى عن عشقه لممارسة الحقد ثم الانتقام بلا شفقة من ضحيته على حين غفلة من حذرها.

وها هو ضبع جبان الأنياب، لا تظهر افتراسيته إلا من وراء ظهور الأسود، وهو يكتفي بفضلاتها طعامها المتعفنة فقط ليظهر كوحش تخيف الناسَ أنيابه.

أما تلك التي تتوق عشقًا لأن يحولها الله طاووسًا، فهي للعجب قد أسرت أو تزوجت من حمار لا يفقه إلا في أن يُعلف لكي يُتّخذ مطية ولا تحلو له الحياة إلا براكب عليه بتبختر ثم تكافئه بحفنة تبن.

وبين هؤلاء وهؤلاء تعيش مجموعات من القطط والحملان والطيور، تمنت أن ينعم الجميع بالسلام والجمال، ومجموعات من النحل الدؤوبة التي لا تتوانى عن العمل بإخلاص لتوفير الفوائد لمن حولها، وإعلان شأن العمل والخير والقدوة.

لقد أثارتني هذه اللوحة التي أراها رمادية، تحت ظروف عاصرتها مع مقرب مني في عمله، حيث اجتمعت – للعجب-على اختلافها مجموعة من سبع وثعبان وضبع وطاووس وحمار، وانتزعت إدارة المكان وراحت تفتك بتلك النحلات النشيط طبعها اللامع مجدها في صورة قدوة وعطاء.

واستحال السلم في لمح البصر إلى كدر وتبدلت الطمأنينة إلى غرف عمل للتصدي لهجمات الحاقدين على الفضيلة.

وللأسف فإن الغالبية حملان ونعام، فمنهم من اكتفى بالبكاء والدعاء على زمرة الشر بالموت والهلاك، ومنهم من سارع بالبحث عن مدفن لرأسه معلنا “أني لست هنا ولم أر افتراءكم فلا تقربون”

ولو أن أهل الخير في تلك المؤسسة تآزروا فشكلوا ظهرًا يشد أزر هؤلاء الذين افترستهم الإدارة الجديدة لكان ذلك إعلانا لكل من تسول له نفسه التسلط على موظفيه بالويل والإهلاك تضييقًا للخناق على كل مسلك ما في العدل.

وبغض النظر عن تدخل الثعالب في تصميم الكائن ونصب الدسائس والتزوير المتعمد لإزاحة الفاضلين من المكان، وبغض النظر عن غياب كل من يساند الحق بحق، وما آل إليه الأمر، إلا أن هذا أشعل رغبتي في أرسال رسالة أخاطب بها كل من يعتبر نفسه إنسانًا.

فلا يجوز أبدًا لإنسان أن يتدنى بالتنازل عن إنسانيته وسلك مسلك الحيوان كي يفوز ببعض المكاسب التي ستكون بعد زمن ليس ببعيد منبعا لخسارته.

وليبق إنسانا فقد اشْتُقّت من اسم جنسه الإنسانية التي ترسم فور سماعها لوحة ملونة تضم الشفقة والرحمة وكل ماتتمناه النفس السوية من طبائع الفضيلة.

لا يجوز للإنسان أبدا أن يستسبع أو يتثعبن أو يتثعلب أو.. أو.. وليبق في طور الفطرة إنسانًا، ذاكرًا أن الأمر لا ينتهي بمواراة أجساد البشر ببضع حفنات من تراب، وأن حسابًا حقيقيًا مقام له لا محالة كبشر وليس بطبيعته الشاذة التي تحول إليها.

وليبق إنسانًا يؤازر، فالعون من طبيعتنا نحن البشر كي تستقيم الحياة التي نتشاركها جميعًا، ومن أعظم أبواب العون أن يكون كل منا ظهرًا للمظلوم، وأيضًا أن يظل إنسانًا لا ينهل من منبع الدونية الحيوانية وخبيث الأخلاق الدخيلة.

هذه دعوة أوجهها لنفسي ولك عزيزي القارئ، دعوة للثبات على الفطرة الإنسانية وإعلاء شأنها وتفعيلها، وهي أيضًا دعوة لنشر هذه الدعوة في كل ميدان، فليست ميادين العمل هي فقط ما تظهر فيها هذه الشذوذات؛ بل أيضًا في المنزل والشارع والميني باص وعلى الشاطئ أيضًا.

هيا عزيزي القارئ، هيا بنا جميعًا نقاوم تلك الظاهرة الفتاكة التي بدأ فيها يعلو؛ شأن ظاهرة “المتحيونون“.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا