التاريخ والآثارتقارير وتحقيقاتثقافةمقالات

السادات و رحلة البحث عن الذات

✍️ محمد علي

 

لكل قصة بداية، ومازلت أذكر ذهابي للسرير مبكراً في ليالي الشتاء الباردة، وأنا أحتمي من البرد بداخل حضن جدتى وأطمئن بدفء مشاعرها، وأذكر عندما كانت تدثرني وتحكي ليا حكاية وتقول، كان ياما كان فى سابق العصر والأوان رجال أبطال شجعان وفرسان، حموا الحق ونصروا المظلوم، أطعموا المسكين والغلبان، سعوا إلى الخير  في كل مكان، حتى أذهب فى النوم وأنا أملك الحلم وأشعر بالأمان.

وأنقلبت الأيه الأن، وأصبحت أجلس أنا لأحكي لها القصص والحكايات، لأذكرها بأجمل أيام الماضي وأحب الذكريات، واليوم حكيت لها عن السادات ورحلة بحثه عن الذات، وبدأت قصتنا في ليلة شتاء باردة يوم الخامس والعشرين من ديسمبر عام  1918م، داخل منزل بسيط في قرية ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية، حيث ولد الرئيس الراحل محمد أنور السادات لأب مصري وأم من أصول سودانية.

أول فرحة فى حياة السادات

وسوف نحكي الحكاية كما جائت عن صاحبها حيث نشأ السادات فى حب القرية، نشأ يجري ويلعب ويتمتع فى ساحاتها وأزقتها، فيذكر لنا السادات عن اول فرحة فى حياته عندما كان يسمع الأطفال والكبار ينادون، ” العسل وصل … العسل وصل “، ومع وصوله تصل الفرحة والبشرى بقدوم مركب العسل، ليذهب مسرعاً وباقي أطفال القرية ليخبروا الجميع، ويذهب هو إلى جدته حامل أخبار وصول العسل.

جدته كانت صاحبة التأثير الأقوى به وتعلم منها الكثير

ويذكر لنا السادات عن فرحته وهو يمسك بيد جدته ليذهب معها لشراء العسل، حيث تأثر بها كثيراً وكانت هى التى ترعاه عند غياب والده وسفره إلى السودان، حيث حدثنا عنها وقال فى كتابه البحث عن الذات ” خلال فتره وجود أبى فى السودان ، كان الذى يتولى أمري خلال تلك الفترة ، جدتي لوالدي وهذه السيدة أعتز بها جداً رحمها الله، لأن إذا كنت تعلمت شيء فتعلمته منها , وهي كانت توفيت عن أكثر من 90 عام وكانت أُمية لا تقرأ ولا تكتب شأنها شأن أغلب من يعيشون فى القرية ولكنها كانت تملك حكمة وثقافة التجربة , ثقافة الزمن والتراث الطويل لهذا الشعب, شعب 7 آلاف سنة متراكمة كنت دائماً أراه فيها , وأقول مره أخرى انه إذا كنت استفدت شيء في حياتي فقد أستفدتة من خبره ومن شخصية هذه السيدة.

السادات مع والدته.

موال زهران الملهم للسادات فى طفولته

كان الطفل الشقي الذي يقضى النهار فى الركض واللعب بين الطرقات والحقول، يأتى الليل عليه فى سكينة وسلام، فيذكر لنا أنه كان ينام فوق الفرن ملتمساً الدفء في ليالي الشتاء، إلى جانبه إخوته الصغار وقد أستغرقوا فى النوم لكنه ظل مستيقظ ليستمع إلى حكايات جدته، وهى تذكر له قصص واقعيه عن مصطفى كامل وبطولة زهران فى حادثة دنشواي، وكيف دافع عن أرضه وعرضه بشرف وشجاعة، وكيف أقبل أيضاً على الموت والشنق وهو مرفوع الرأس فخوراً ومزهواً بنفسه لا يخشى الموت، ذلك المشهد الذي يذكرنى كثيراً بأخر صورة ألتقطت للسادات قبل إستشهاده وكأنه كان يسعى إلى نفس المصير، فالمرء نتاج أفكاره وما يظنه بنفسه يتحقق، وكأنه قد تمنى في هذة الليلة أن يكون مثل زهران.

حفظ القرآن كامل وهو طفل صغير

بدأ حياته في كتاب القرية وظل به ست سنوات، تمكن خلالها أن يحفظ القران كاملاً، ومن الكتاب إنتقل إلى مدرسة الأقباط الابتدائية، والتى توجد بقرية طوخ دلكا المجاورة لقريته، حيث لم يكن بقريته آنذاك أية مدارس للتعليم الابتدائي، وحصل منها على الشهادة الابتدائية.

وعن هذه الفتره يقول أنور السادات “إن السنين التي عشتها في القرية قبل أن أنتقل إلى المدينة، ستظل بخواطرها وذكرياتها زادًا يملأ نفسي ووجداني بالصفاء والإيمان فهناك تلقيت أول دروسي في الحياة….تعلمتها على يد الأرض الطيبة السمحة، التي لا تبخل على الناس بالزرع والثمر، وتعلمتها من سماء قريتنا الصافية المشرقة، إنني أعتقد أنني لو تخليت عن الروح الريفية التي تسري في دمي، سوف أفشل تمامًا في حياتي”.

حياته دائماً كانت مرتبطة بأحداث مصر التاريخية والسياسية

بعد عودة أبيه من السودان إنتقل السادات مع أسرته إلى القاهرة، في أعقاب مقتل السردار الإنجليزي “سير لي ستاك” قائد الجيش المصري والحاكم العام للسودان. فقد كان من أهم العقوبات التي وقعتها إنجلترا على مصر أن يعود الجيش المصري من السودان، فعاد معه والد السادات حيث كان يعمل كاتبًا بالمستشفى العسكري.

أكمل تعليمة بمشيئة القدر بسبب أخيه الأكبر طلعت

كان القانون فى ذلك الوقت يسمح فقط لطفل واحد بالتعليم المجاني، وعليك أن تدفع مصاريف دراسية للأخر، وبسبب ضيق حال والده أقدم على تعليم أخيه طلعت لكنه أخذ المصاريف وهرب بها وأحجم عن الذهاب إلى المدرسة، وأفسح الطريق إليه فى التعليم، والتحق السادات بالعديد من مدارس القاهرة، مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالزيتون، ثم مدرسة السلطان حسين بمصر الجديدة، فمدرسة فؤاد الأول الثانوية، ثم مدرسة رقيّ المعارف بشبرا، وحصل من الأخيرة على الثانوية العامة.

الرجل الأشيك بالعالم أشترى أول بدلة له من وكالة البلح

نعم ذكر لنا السادات أنه كان عليه أن يرفق صورة شخصية بإستمارة الحصول على الشهادة الثانوية، وكانت الصور الشخصية فى أيامها شيء عزيز وله أهمية كبيرة وخاصة، فذهب السادات إلى والده وطلب منه بدلة جديدة ليتصور بها، وكانت غالية الثمن ولا يستطيع والده شرائها، لكنه قال له أمهلنى يوماً أو يومين لأدبر المبلغ، وأعطى السادات مائة وخمسون قرشاً، وطلب منه أن يذهب إلى محل الأسطى فوزى بدكاكين وكالة البلح ليفصل له بدلة جديدة، وقد كان.

تأثر كثيراً بمصطفى كامل وغاندي وأتاتورك

الطريف هو موقف السادات من زيارة ومرور غاندي بمصر، حيث ذكر لنا الموقف فى كتابه البحث عن الذات وقال …”  أذكر انه فى سنه 1932 مر غاندي بمصر فى طريقه إلى انجلترا .. وامتلأت الصحف والمجلات المصرية بأخباره وتاريخه وكفاحه فأخذت به واستولت صورته على وجداني فما كان منى إلا أن قلدته ..خلعت ملابسي وغطيت نصفى الأسفل بإزار وصنعت مغزلاً واعتكفت فوق سطح بيتنا بالقاهرة عده أيام إلى أن تمكن والدي من إقناعي بالعدول عما انا فيه .. فلن يفيدني ما افعله أو يفيد مصر فى شيء بل على العكس كان من المؤكد أن يصيبني بمرض صدري وكان الوقت شتاء قارس البرودة “، وهذا هو الشغف أصدقائي.

وكما ذكرت وذكر السادات نفسه فى كتاب البحث عن الذات، أن حياته كانت تسير جنباً إلى جانب مع أحداث مصر التاريخية، وهذا ما حدث في عام 1936، حيث أبرم مصطفي النحاس باشا رئيس وزراء مصر معاهدة 1936 مع بريطانيا، والتي سمحت بإتساع الجيش المصري تأهبًا للحرب العالمية الثانية، مما أتاح لأبناء الطبقة المتوسطة فرصة الالتحاق بالكلية الحربية، وأن يصبحوا ضباطًا في صفوف الجيش المصري، فدخل على أثرها أنور السادات وجمال عبد الناصر ومجموعه كبيرة من رموز ثورة يوليو إلى الكلية الحربية، ولكن كان من شروط القبول وقتها ذكر دخل الأب وثروته وخطاب التوصية.

العسكري أنور السادات الكاتب بالمستشفى الميري

ولوالد السادات أثر كبير فى حياته هذا تجسد فى سعيه الدائم معه طوال مشواره، فذهب يبحث عن واسطة ليدخل أبنه الكلية الحربية، فتذكر صول كان يعمل معه فى السودان وأصبح هذا الصول فى خدمة إبراهيم باشا خيري، فذهب السادات مع والده لمقابلة الباشا فى قصره بحدائق القبة وأنتظرا حتى يخرج عليهم الباشا ليستلفتوا أنظاره ويسألهم عما يريون، وأقترب الصول وهمهم لإبراهيم باشا بطلب السادات ووالده، لكنه تصرف معهم بكل عنجهية وتكبر.

السادات مع والده.

لتمر الأيام وبعد هذا اللقاء بسنوات، وبعد أن أصبح السادات رئيس مجلس الأمه، أتى له إبراهيم باشا ليستعطفه فى حل مشاكل لها علاقه بأبنائه وفرض الحراسة عليهم، وذكره السادات بلقائه القديم معه وقال له ” … إياك أن تتصور أن هذا اللقاء ترك فى نفسي أي أثر بالنسبة لك … بالعكس أرجو أن تعتبر أني في أي وقت مستعد لتلبية جميع طلباتك فأنا أدين لك بالكثير، وهذا هو العفو والإحسان عند المقدرة أصدقائي.

لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة ..!

لم ييأس السادات أبداً وبمساعدة والده إستطاع أن يجد واسطه لدخول الكلية الحربية، فلم يجد سوى دكتور إنجليزي يدعى فيتس باتريك وهو الذي كتب له خطاب التوصيه، لكن وبعد قبوله فى أخر المقبولين وكان عددهم إثنان وخمسون، وعند ذهابه لدفع المصاريف تفاجئ أن هناك أحد من الباشوات قام بحجز ست أماكن فى المقبولين لأقاربه ولأخرين، فتم مسح أخر ست أسماء وكان من بينهم السادات، فذهب بعدها وألتحق بكلية الأداب ولم يستمر بها فألتحق بعدها بكلية الحقوق، حتى بعد فترة من دخول الدفعه وبعد عناء من والده، أستطاع أن يقنع حكيمباشي الجيش بقبول السادات وألتحق فعلاً بالكلية الحربية.

وكانت تلك بعض المحطات من رحلة السادات  للبحث عن الذات، الرجل الذي ترك أثر وبصمة على رقيم العزة والنصر، لا يمحوها شيء ولا تختفي بمرور الوقت والزمان، الرجل الذي هزم الشر وكان إنسان، قبل أن يكون بطل الحرب والسلام.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا