تقارير وتحقيقات

أهل الحب

✍️ محمد علي 

 

طرقت بابي كا العادة بعد غروب الشمس، وأتت متلهفة إلى قصة جديدة أقصها عليها، أبتسمت لها وقبل ان أسألها، قالت أريد ان تحكي لي هذة المرة قصة عاطفية، من قصص الحب والغرام، تعجبت قليلاً لطلبها ثم قلت لها، وأي حب تقصدين، حب الحياة أو حب الله والوطن، حب الأم لأطفالها أو حب الحبيب و الأصدقاء، حتى أنتقل التعجب لها، وقبل أن تفقد شغفها، قلت لها سوف أحكي لكي قصة عن مفهوم الحب فى المطلق، وسوف تجدين فيها الحب بكل معانيه.

القصة تبدأ برجل حزين تائه لا يحب الحياة ويرفضها، يعمل مهندس بشركة جيبسون يسمى جوليوس فاجوبن ولد عام 1907م، فى قرية صغيرة بضواحي فيينا لأم ألمانية وأب نمساوي، كانت تقاليد العائلة صارمة حيث كان على جوليوس الإلتحاق بالجيش الألماني، ولكنه كان يكره الحرب بشدة، فترك قريته ليدرس الهندسة بلندن، وبعدها تخصص فى بناء الكباري والسدود.

المهندس جوليوس والذي أصبح فيما بعد عبد القادر.

هذا ما قاله الخواجة جوليوس إلى الصحفي السوداني صلاح عمر الشيخ، والذي نشر حديث الخواجة عبد القادر بعد إشهار إسلامه فى جريدة الأضواء السودانيه عام 1969م، وهذا الحديث النادر كان الملهم للكاتب عبد الرحيم كمال مؤلف مسلسل الخواجة عبد القادر، والذي كان يستمع منذ طفولته لقصص عن الخواجة عبد القادر، وكيف تأثر به والده عند لقائه، ونقل هذا التأثير إلى ولده، حتى كبر وكتب لنا رائعته الخواجة عبد القادر.

الكاتب والسيناريست الكبير عبد الرحيم كمال

هذة القصة التى جذبت العديد من المشاهدين ونجحت نجاح كبير عند عرضها، قصة حقيقية أبطالها أشخاص عاشوا بين مصر والسودان، والتى تعتبر في رأي الشخصي لا تقل أهمية عن الكثير من القصص الدينية الهامة والملهمة، لما بها من معاني روحانية فريدة ومؤثرة.

ونعود إلى جوليوس التائه الذي حذره الكثيرون من السفر إلى السودان، لما يوجد بها من مشقة ومتاعب، لكن جوليوس قرر أن يذهب وأن يخوض هذا التحدي الجديد، كان يبحث عن الحقيقة المطلقة والجواب، لأسئلة ظلت عالقة فى ذهنة لسنوات، وكما درس الطب وتركه ليدرس الهندسة، حاول جوليوس أن يجد ديانة وعقيدة جديدة، يعرف من خلالها معنى الحياة، مما جعله يقرأ عن الديانات والعقائد المختلفة فى محاولة للبحث عن اليقين.

والغريب فى الأمر أنه أنجذب إلى المسلمين فى السودان، ووجد أول شعور بالراحة والإطمئنان، مما جعله يحبهم ويختلط معهم، وهم أيضاً احبوه وأصبحوا يثقوا فيه ويقدروه، وهنا وجد عبدالقادر الحب والتقدير ممن حوله، والذي ظل يبحث عنه لسنوات ولم يجده ممن كانوا حوله.

هذا الحب ولد عند جوليوس الفضول، فظل كثير يراقبهم وهم يقومون بشعائر الصلاة، تعجب منهم عندما وجدهم يصومون فى هذا الجو الحار فقط لكي يرضوا الله، تعجب أكثر فسأل وأكتشف أن السر وراء هذا الإنضباط الذاتي، هو حب إلهي، وهنا وجد جوليوس معنى أخر من معاني الحب، والذي يتجسد فى التسليم والإخلاص لله سبحانه وتعالى.

وكان يحب الموسيقى بشدة فجذبته نوبات ومدائح القادرية المكاشفية، وتعلم بعض المفردات فأصبح يردد معهم ويذكر الله، ذكر الله جعل قلبه يطمئن أكثر وأكثر، وبدأ الإهتمام بالدين الأسلامي فأصبح يبحث عن كتب ليقرأ عنه، لكن الكتب وحده لم تكن كافية لكي يعرف الله حق المعرفة.

وكان ما ينقص جوليوس هو لقاء الشيخ عبد الباقي المكاشفي، وهو أحد أعلام التصوف في العالم الإسلامي والسودان، ومؤسس الطريقة القادرية المكاشفية، وهى إحدى الطرق الصوفية، أسمه الشيخ عبد الباقي عمر أحمد المكاشفي، ولد فجر يوم الأربعاء الرابع من شهر رجب سنة 1284 هـ الموافق 1867 م، في قرية شنبلي من نواحي ريفي سنار بالسودان.

الشيخ عبد الباقي المكاشفي أحد أبرز شيوخ الصوفية السودانية.

ذكر عنه فى كتب التصوف أنه كان متخلقًا بالأخلاق المحمدية ومتمسكاً بالسنة، تسرك نظرته وترغبك في الآخرة أفعاله وتزهدك في الدنيا خصاله، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد ولا يمن على من أرشد، لين العريكة حسن المجالسة جميل الملاطفة، إذا حدث صدق وإذا عاهد أوفى وكان لا يقابل أحداً بما يكره، متواضع للناس ولله ويكرم أهل الفضل والأقارب ويصل الجيران وذوي العاهات والبلايا وينفق عليهم بما عنده بالكثير والقليل.

وذكر عبد القادر فى الحديث الصحفي أنه كان يرى شيخاً أسمر اللون يأتى له كثيراً فى المنام، يحدثه بلغته ويفهمه، وتكررت الرؤيا منذ أن كان يعمل ويدرس فى لندن، ولم يكن يدري أنه سوف يلتقي فى الحقيقة بهذا الرجل، وسوف يكون له دور كبير فى تغيير حياته.

حتى جائت رؤيا جديدة لجوليوس شاهد بها نفس الشيخ يطلب منه أن يلقاه بين الجبلين فى الشكينيبة، تعجب كثيراً وظل يفكر بها لأيام، وفى يوم طلب من أحدهم أن يدله على شيخ يعلمه أكثر عن الإسلام، فقال له الرجل يجب أن تذهب إلى الشكينيبة هناك سوف تجد الشيخ عبد الباقي المكاشفي وسوف يعلمك ما تريد.

التعجب عند جوليوس تحول لإندهاش وفضول، عندما قال له الرجل على نفس المكان الذي ذكر بالرؤيا، مما جعله فى اليوم التالي يأخذ القطار ويذهب مسرعاً إلى هناك، لتحدث المفاجأة ويرى الشيخ عبد الباقي ويكتشف أنه هو الرجل الذي يراه فى الرؤيا ويتحدث معه منذ زمن.

والغريب أيضاً أن الشيخ عبد الباقي لقبه بأسم عبد القادر من اللحظة الأولى ،وكان يستطيع التحدث مع زواره من مختلف البلاد بلغاتهم المختلفة، فتحدث مع جوليوس بلغته، وأخبره جوليوس عن سبب قدومه إليه وعن رغبتة فى العلم والمعرفة أكثر عن الإسلام، فأخذه الشيخ من يده إلى مكان خلوتة بين الجبلين بالشكينيبة.

ظلوا يتحدثوا كثيراً حتى جاء موعد صلاة العصر، فقال له الشيخ عبد الباقي تعالى وصلى معنا عبد القادر، وأنطقه الشهادتين وعلمه الوضوء وجلس معهم عبد القادر لأول مره فى جلسة الذكر والمديح الخاصة بالشيخ عبد الباقي ومعه أتباعه وتلاميذة، وكان هذا يوم وداع للخواجة جوليوس البائس الحزين، وإستقبال الخواجة عبد القادر عبد الباقي المقبل على الحياة من جديد.

تغيرت حياتة كثيراً بعد هذا اليوم وذكر تفاصيلها الصحفي محجوب مكرور فى تحقيق صحفي مع  أحفاد الشيخ عبد الباقى المكاشفى، حيث ذكر أن عبد القادر ظل ملازم وبجوار الشيخ عبد الباقي المكاشفي طوال الوقت ولمدة عام وشهرين متواصلين، يتعلم أمور الدين ويعرف أكثر عن الإسلام وعن الحياه والأخوة والمحبة بين المسلمين.

حوار الخواجة عبد القادر مع جريدة الأضواء 11 مايو 1969.

بعدها خصص له خلوة إلى جواره وعلمه أن يقرأ القرآن بلغته العربية الضعيفة، وأصبح الشيخ عبد الباقي الأب الروحي لعبد القادر، حتى أنه وهب له أسمه، وزوجه من زينب بنت أخته، والتي كانت تقيم بقرية بحري وأنجب منها بنت وله أحفاد حتى اليوم فى السودان.

وجد عبد القادر نفسه اخيراً، أصبح له أصدقاء يحبهم ويحبونه، أصبح له أهل يدعموه ويحمونه، وأصبح له أولاد وزوجة يحبها وتحبه، لكن جاء الموعد لخوض رحلة جديدة، وبعد بقائه إلى جوار الشيخ عبد الباقي لمدة عام ونصف، قرر الذهاب إلى الأزهر الشريف بمصر لتلقي علوم الدين.

وبالفعل إتجه الخواجة عبد القادر إلى مصر ومنها إلى الحج ثم عاد إليها من جديد، وبمجرد وصول عبد القادر إلى مصر أصابته سهام العشق والحب من جديد، فوجد الراحة والسلام فى جوار السيدة زينب والحسين، وبدأ يدرك معنى حب الوطن وحب المكان، وكنت إذا تريد لقاء الخواجة، عليك أن تذهب إلى مسجد السيدة زينب فى صلاة الفجر وسوف تجده هناك.

أحبه أهل مصر حب شديد، لرؤيتهم له يتعبد طوال الوقت ويصلي ولحسن أخلاقه وطيب معاملته، حتى قام بإستخراج بيان رسمي بإسلامه وقام بتعديل بسبورة وغير أسمه رسمياً إلى عبد القادر عبد الباقي، وحصل أيضاً على الجنسية المصرية الفخرية عام 1951م.

وثيقة عبد القادر لحصوله على الجنسية المصرية.

وعاش عبد القادر فى مصر سائحاً صوفياً يتجول هنا وهناك، حتى وصل فى يوم إلى منطقة دراو بقرية بمبان بسوهاج، وحدثنا عن ذلك الشيخ حامد عبد الرحمن الحمدابى فى البحث الخاص به عن الخواجة عبد القادر، وهو من أبناء جعافرة الدويم وكان له جزور فى قرية بمبان، وكانت القرية تشبه كثيراً قرية الشكينبة بالسودان لذلك وقع بحبها الخواجة عبد القادر وقرر البقاء بها.

وكانت القرية مركز لتجار الجمال الذين يأتون من السودان، ولهذا بنى الخواجة عبد القادر خلوة على شاطئ النيل ليتعبد بها، وهى مازالت موجودة وقريبة من قبة الشيخ الشريف عبدالله.

وكان للخواجة الشيخ عبد القادر الكثير من الأصدقاء والأحباب، منهم مصطفى الحنضلاوية الذى كان يعمل فى الأوقاف، والذى كان يعلمه اللغة العربية ويحضر له معاشه من الحكومة المصرية، وأيضاً الشيخ موسى النيل المكاشفى والذي عاصرالخواجة وكان طفل فى المرحلة المتوسطة، وكان بجوارة معظم الوقت يساعدة فى العديد من الأمور ويتعلم منه.

وبقى عبد القادر فى مصر لمدة خمسة وعشرون عاماً كاملة، كان يزور فيها والدة الروحي ومعلمه الشيخ عبد الباقي في الشكينيبة بين الحين والأخر، وعند وفاة الشيخ عبد الباقي حزن عبد القادر كثيراً وزاد زهده فى الدنيا، وكان يقضي معظم الوقت فى خلوة الشيخ عبد الباقي يصلى ويتعبد ويذكر الله.

حتى جاء يوم قرر الخواجة عبد القادر أن يرجع مره أخرى إلى قرية ود أبو آمنة، حزم جميع أغراضه وودع جميع أصدقائه، وذهب هذة المره إلى هناك وبقى حتى توفى.

 

وعند وفاته أكد الشيخ موسى أنه قدم إلى السودان وكأنه يعلم أنه سيموت، بل أمر بأن يدفن فى ود أبو آمنة المكان نفسه الذى أسلم به، وكانت هذة قصة رجل يبحث عن الموت فوجد الحياة، يبحث عن الأخر فوجد  نفسه، وجدها بالحب، أحب الله مما جعله يحب نفسه، أصبح يحب من حوله ومن حوله يحبه، وجد معنى لحياته ولبقائه فأحب الحياة، وجد الأمان والإطمئنان فأحب الوطن وتعلق بالمكان، فالناس موتى وأهل الحب أحياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا