مقالات

نكث الميثاق الغليظ

✍ د. باسم موسى

 

نَكَث لفظ فصيح غير مشهور يعني نقض، وقد أوردته لسببين؛ الأول هو كونه لفظ قرآني أورده الله تعالى في قرآنه الكريم، والثاني إثارة انتباهك بلفظ لا تعتده الآذان كثيرًا حيث أن موضوعنا اليوم هام جدًا كونه يعرض حالة مرضية اجتماعية مبكية متزايدة في أواننا الحالي؛ منتشرة كالعدوى والنار في الهشيم.

نكث الميثاق الغليظ
نكث الميثاق الغليظ

 

جئت اليوم بصدد مناقشتك عزيزي القارئ في أخطر مرض يصيب الميثاق الغليظ، الزواج الذي وصفه الله بالميثاق لأنه عقد ينطوي على عهد بواجبات الرجل والمرأة وحقوقهما، الواجبات والحقوق الأسرية بشتى أنواعها التي فرضها التكوين الطبيعي والدين والعرف لكل منهما.

ولبيان عظم ذلك العهد المتضمن بدء حياة جديدة مبنية على المودة والرحمة كأساس وأعمدة؛ وصفه الله جل وعلا بالغليظ. فمزيج المودة والرحمة الذي هو الأساس علي فعلاً، غلي من حيث عظم أهميته، وغليظ من حيث متضمناته، فهو شامل للحب والغيرة الحميدة والحرص على الرعاية والإيثار والتغافل واللين والرفق والتضحية و.. أكمل عزيزي القارئ فإنها مسابقة كلما أحرزت فيها نقاطًا فزت بمقدار أكبر من الاستقرار والسكينة والسعادة.

إن هذا الميثاق المقدس حبل من حبال الله المتينة التي تشتد بها قوة مجتمعنا. إنه حبل الزواج الذي هو السبب الشرعي في وجود أسرة ومن ثم في وجود مجتمع، فلماذا ظهرت في هذه الأيام ظاهرة انفكاك هذا الحبل؟! ونكث هذا الميثاق الغليظ؟! وتجلت ظاهرة حالات الطلاق باكية مستغيثة من الفجر في الخصومة العداوة بعد المودة؟!

و “لماذا” هنا؛ هي للبحث عن إجابة منطقية مقنعة تقدم لنا السبب، وتنفي عن عقولنا العجب، وتخفف عن قلوبنا التعب. فإذا عرف السبب فقد دنونا كثيرًا من حل مشكلة نكث ذلك الميثاق المتين، بالطلاق أو على أقل تقدير بالانفصال العاطفي أو الجسدي، وما ينتج عن ذلك من توابع تؤرق وتفسد.

لقد حزنت حزنًا مؤلمًا عندما قرأت عن إحصائية حالات الطلاق خلال عام 2021 وعلمت بحدوث حوالي 245 ألف حالة خلال العام، منها 28٪ خلال الأعوام الثلاثة الأولى من الزواج، أي أن ما يقارب ثلث عدد الزيجات يتراجع أطرافها عن رأيهم بسرعة شديدة بعد فترة وجيزة من أخذ العهد بالصبر والتحمل والبناء والاستمرار ضمن كيان واحد.

إن ثلاث سنوات تعني غالبًا وجود أولاد، وهذا هو لب الألم، الكسر هنا ليس مضاعفًا فقط لوقوعه في عائلتين، بل لأنه أصبح متشعبًا بكسور في نفس ناشئ ستنمو كل يوم بنموها وتتعمق آلامها بتقدم لحظات عمرها. والنتيجة خطورة متوقعة على شخص ومجتمع.

رجعت إلى أرشيف ذاكرتي متفحصًا سجلات المعارف فتبينت بالفعل معاصرتي خلال السنوات السابقة عددًا – صادمًا – من حالات طلاق فعلي، وعددًا آخر من حالات طلاق مقَنّع، أي زواج مستمر بلا روح أو عاطفة، زواج فقط لأن كلمة الطلاق لم تنطق.

رحت أعمل خاطري وفكري في الأسباب الموصلة لذلك الخراب فوجدتها بلا عدد يمكن حصره، ولكن برزت عوامل مشتركة تكررت في حالات كثيرة، وكان منها ما يلي كأمثلة مصنفة تحت أقسام أربعة:

أ- أسباب مرحلة ما قبل الزواج، ومنها:

1- سوء اختيار الطرفين لبعضهما والاندفاع وراء حب الارتباط والمظهر أو المستوى الاجتماعي أو المالي أو المنصب، أو قلة الخبرة في الحياة مع غياب الناصح الحكيم إلخ.

2- الإختيار العاطفي بالقلب فقط مع تنحية العقل وإهمال رأيه ومشورته.

3- التفكك والتقوقع والانعزالية المجتمعية التي أدت إلى جهل الناس بطبائع بعضهم البعض؛ مما أدى إلى غياب القدرة الكافية للحكم الصائب والنصح النافع عند الاستقصاء عن النسباء الجدد ومدى التوافق مع ذلك النسب المزمع صلاحيته للاستمرار مدى العمر.

4- الغش والخوف والحرج الاجتماعي ، حيث يحصل المتقصي عن النسب المنتظر على معلومات غير صحيحة عن طبائع وأحوال النسباء الجدد.

5- التعلق بأول فرصة زواج، خشية فوات القطار للأبد، أو لسد حاجات نفسية قد تكون غير سوية.

 

ب- أسباب مرحلة ما بعد الزواج ، ومنها:

1- ضعف الثقافة الزوجية، كالجهل بالأهداف من الزواج، وطبيعة الحياة الزوجية ومقوماتها، واختلافها عن الصورة الخيالية التي ترسمها عقول مرحلة الشباب، وأنها لا تقع جميع لحظاتها في “النطاق الوردي” الذي تصوره أفلام الخمسينات، وكذلك ضعف المعرفة بطرق الحفاظ على الزواج، وحل المشكلات الزوجية، وإدارة الأسرة بحكمة، وما إلى ذلك.

2- بعض المنابر الإعلامية المخربة التي تنخر بإخلاص وتفانٍ في جدران الأسر والعلاقة بين الرجل والمرأة بصفة عامة؛ وفي المودة والرحمة والترابط بين الزوج وزوجته بصفة خاصة.

3- إلقاء المرأة والرجل لآذانهم تحت هذه المنابر المفسدة تجمع كل ما سقط من غائطها بإصغاء سكران وعقول منقادة بماكياج الألسنة الخداعة دون وعي أو وزن أو تقييم.

4- انشغال الأب والأم ليل نهار بجمع لقيمات العيش وفتيلات الملبس ورشفات العلاج؛ جعل من شبه المستحيل تعليم الأولاد وتقويمهم؛ مما أدى إلى الجهل بأسس الحياة الاجتماعية الكريمة والدور الحقيقي للمرأة والرجل في حفظ كيان الأسرة والمجتمع، وأدى كذلك إلى افتقادهم لرؤية نماذج تعامل مثالية بين الأم والأب الغائبين لكي يقتدوا بها ويتعلموا منها.

5- دعوات الندية النوعية، الصارخ صداها ليل نهار لجعل المرأة والرجل كائنًا واحدًا مزدوج الطبيعة الجسدية والعاطفية والفكرية؛ خربت الإدراك الفطري لدور كل من الزوجة والزوج في الأسرة، فتخلى البعض عن دوره عامدًا أو جاهلاً.

 

جـ – التعصب المنحرف من العائلات؛ كل لابنه أو بنته عند حدوث مشكلة زوجية يلزم لحلها التصعيد للمستوى العائلي. أحيانا يكون ذلك بسبب تحيز عاطفي بحت وأحيانًا تعصبي جائر للانتقام أو استعراض القوى أو غيره.

د- تدخل الطالحون عقلاً أو نفسًا أو سلوكًا من الأقارب والمعارف؛ فيشيرون على الزوجين بآراء مفسدة ليس فيها إلا ما فيه خراب الأسرة.

هـ – ضعف التحمل، والتنصل من المسئوليات الأسرية وعدم الرغبة في التضحية من أجل الحفاظ على السفينة سليمة حتى تصل لبر الأمان.

وينطبق هذا على كل من الزوجين على حد سواء، وهذا للأسف بسبب النشأة والنمو في بيئة ذات ظروف خاصة افتقدت بغفلة أو اضطرار الأساليب التربية الصحيحة للأولاد.

كانت هذه بعض الأسباب التي لمعت بضوء أسود في سماء علاقاتنا الزوجية. وهي ملخص لجواب “لماذا” الذي طرحناه خلال المقال.

ولكي نناقش “كيف” التي هي السبيل للمحافظة على هذا الميثاق الغليظ ؛ فإننا نحتاج إلى مقال آخر حتى لا نطيل فيتسرب الملل. فعلى وعد باللقاء إن شاء الله لنلتقي على منضدة النقاش لنكمل ما يمكن فعله، وحتى ذلك الحين فكر قارئي العزيز في هذه الكيفيات وناقشها مع غيرك وحفز لتطبيقها عمليًا كي نعيد إنقاذ أسرتنا من أشباح الانهيار.
دمت في حفظ من الله ورباط أسرتك المتين والتزام بميثاقها المقدس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى