مقالات

حبلٌ من قطن .. قصة قصيرة

 

كتب: أحمد فوزي 

بعد دوام ساعات العمل ينتهي راضي من عمله وَ كعادته بذل جهدًا يفوق عشرة موظفين و ذلك هو ما يميز راضي عن زملائه ..

وَ كالعادة قرر الذهاب لبيت جدته أولاً ثم يجلس معها آوانة الظهير و يتناول الغداء من يديها ،

وَ بعد الأصيل يذهب لبيته إمَّا أن يستلقي وَ إمَّا يجلس و يتسامر مع رفقته..

تتوالىٰ عليه الأيام حتىٰ أن أتىٰ اليوم الشهيد ، فُصل راضي من عمله !

إذ أن التقارير المسؤول عنها قد سُرقت ، و لكنها لم تُسرق منه بل أضاعها ، وَ لكن الدلائل لم تقف في صالح راضي ،

عاد إلىٰ بيته بدلاً من العودة لبيت جدته حتىٰ لا ترىٰ في ملامحه حزنه و وبؤسه ..

و إذا في طريقه قُرب عتبة بابه يُصطدم بسيارة

فجأة دون أي تدابير .

يذهب راضي في ملكوت آخر دون الحياة .

يرىٰ شريط حُلمهِ أمامه ، و إذ بشعاعٍ منير يصهبُ نورانه أمام وجهه ، إنها فتاة من جنس الملائكة كانوا يأخذون عيّنة دمها للتبرع لراضي .

تقول : لم يكن قاصدي أن اصطدمه لكن حقًا أريد أن أعتذر و أتمنىٰ أن يفيق من أصبته حتىٰ أطلب منه العفو .

قالت الممرضة : ما اسمك ؟!

قالت : مريم !

و بعد أيام فاق راضي من أثر الحادثة ،

فجاءت له فتاة بين الأنثىٰ المراهقة اللعوب و المرأة الناضجة الرزينة ،

تقول : حمدًا للّٰه علىٰ سلامتك يا أستاذ راضي .!

قال راضي : ليسلم اللّٰه مهچتك ، من أنتِ ؟!

فقال : أنا مريم من اصطدمت بحضرتك أعتذر جدًا إليك و آسفة عمَّا أصابك ، و أطلب من حضرتك العفو وَ الغُفران .

فقال :لا تتأسفي ، أنتِ لم تصطدميني بسيارتك ،

فيحُ روحك الطائف في وچداني هو ما أصابني وَ أنا الأن كنت أُريد الإفاقة من سكرة طيفك !

ثم نظرت بتعجب فقالت : عذرًا حضرتك ماذا قُلت؟!

فنظر راضي خجلاً في الأرض يتذكر ما حدث ؛

كان راضي قد تعرف علىٰ فتاة اسمها قُربان زميلةٌ له ،

كانت في البداية معرفتهما سطحية لدرجة تشبه تعارف الشقائق .

لكن في عصر يومٍ ما أرادت قُربان الانتحار وَ شرعت في بتر يدها الذي أدىٰ بها إلى انفجار بركانٍ من الدماء كان مكبوتًا في عروقها يحمل في حُمرته غلظًا جهنمي أشرع بها للهلاك وَ إذ بأهلها بعد فاجعة رؤيتها يسارعون في النجدة ،حتىٰ ظهر راضي فلمَّا علم بما أصاب قُربان شرع للتبرع لها بدمه ؛ لتوافق فصيلته معها .

فاقت قُربان بفضل اللّٰه و من تبرع لها بالدم ،

ثم جاءت له كي تشكره بجميل معروف أسداه لها ،

فقال : إنها فريضة إنسانية أن أساعد غيري ،

فقالت : إنها ليست فريضة يا راضي بل فضيلة ،

فضيلةٌ قد احتكرها الأخيار دون البشر ،

وَ أنت منهم يا راضي .

فقال : اتركي هذا ، لم أقدمتِ علىٰ قتل نفسك ؟!

إنه سؤال يصعب عليه الجواب يا راضي ،

إن النفس الحية لا يسهل قنوطها إلا بعد ألم شديد ، وَ حين قنوطك منها سترىٰ أن الجحيم نعمة ،

فكيف تطلب الخوف من الجحيم لأُناسٍ لا يشعرون ؟!

آلاَّ تعلمين أن هذا كفرٌ باللّٰه ؟!

راضي اللّٰه كتب لي عمرًا جديدًا ،

هل سيغفر لي ؟

باب اللّٰه مفتوحٌ يا قُربان لذوي القلوب المغلقة افتحي قلبك فإن رحمة اللّه تدق أبوابه .

تتعاقب الليالي و الأيام

رحلا وَ التقيا ثم رحلا وَ التقيا ثم رحلا وَ التقيا ،

حتىٰ إذا أتىٰ لقاءٌ قد غير جذور الوصل بينهما ،

فبينما هما متوتران متحماسان خجولان جريئان

أراد كلاً منهما أن يقول للآخر كلمة وَ لكنه يخشىٰ ،

حتىٰ سأم كلا الطرفين ،

فقالا في صوت واحد أُحبك !

نظر كلٌ منهما للآخر بدهشةٍ و مودةٍ وَ حماسة ،

فقالت قُربان : إن دماءك جرت في عروقي كأنما بلسمٌ شافي أتىٰ يطهر سموم بواطني ،

أُحبك يا راضي من ظاهر قلبي قابعٌ في فؤاد باطني .

فقال راضي : أنتِ قُربان ،

قُربٌ قد آن ، أو قُربان اللّٰه ، أو وصلٌ ملائكي يأخذ ببياض القلب محمولٌ مكنوزٌ محفوظٌ برباط سماوي لا تُدركه الأبصار ، لا تراه إلا مهجة عاشقٍ تحوم روحه سابحة في الكون الأعلىٰ .

وَ نظر الاثنان وَ كلاهما يعد الآخر بالبقاء ،

الوعد في نهج البشر مخالفته نفاق ،

‏أمَّا في سُنة العُشَّاق إذ خلفت وعد محبوبك فإن هاهنا أغلقت قلبك بأغلالٍ من السعير ،

‏تظل طوال حياتك تُعذب منها و من يقترب لفتح قلبك سيحترق .حبلٌ من قطن .. قصة قصيرة

وَ تمر الأيام شهيدة على حُب راضي وَ قُربان حتىٰ جاء ذلك اليوم المُقدر ،

بينما هما مُشاة في الطريق اصطدما بسيَّارة تهرول بسرعةٍ برقية فتفرق الاثنان كما تتفرق رأس الأُضحية من جسدها ، فالتف الناس حولهما وَ قام أبناء الحلال بإنقاذهما ذاهبيين للمشفىٰ ،

فأصبح راضي في غرفة و قُربان في غرفة .

أمَّا الأول فقد أصبح وجهه مشوهًا غير معلوم الملامح ،

وَ الثانية لم يصبها مكروهٌ قط ، غير أنها فقد الذاكرة .

دخلا المشفىٰ حبيبين و خرجا غريبين !حبلٌ من قطن .. قصة قصيرة

راضي أصبح ذا وجههٍ مشوه لم يعرفه أهله .

وَ قُربان فقد ذاكرتها فلم تتذكر حتىٰ أباها و أمها .

أفلو رجعت الذاكرة لقُربان هل ستعرف راضي ؟!

و إذا عادت ملامح راضي هل سيعيد الذاكرة لقُربان ؟!

بعد تلك المآساة الحية التي كتبت الفُرقة القسرية ،

سافر أهل قُربان بها لخارج البلاد أملاً في وجود بصيصٍ يعالجها ،أمَّا راضي اعتزل الحياة و ألجم قلبه بأغلال من السعير يتعذب به طيلة حياته ،

وَ لا يتجسر أحدٌ القُرب منه لئلاَّ يحترق ،

ثم تتوالىٰ الأيام أن تُذكر قُربان أو تُنسي راضي ،

فلا جدوىٰ واحدةٌ مستنعمةٌ بنسيان أحبتها ،

‏و واحد معذبٌ بعدم نسيانه حبيبته ،

حتىٰ أتىٰ اليوم أي الحادثة هذه فنسيَّ راضي ما قد حدث فقد علم أن قُربان قد عاشت حياة آخرىٰ باسم آخر ،أسموها مريم وَ عملت بوظيفة غير التي اتقتنتها تغيرت تمامًا ، مريم غير قُربان الفارق شئ واحدٌ فقط أنهما نفس الشخص !

تذكر راضي ما حدث حينما نظر للأرض خجلاً وَ رأىٰ خاتم في يمين مريم أو قُربان ،

و بينما هي تنظر له بتعجبٍ عمَّ قاله .

يقول لها : أُعذريني سيدتي فإنك تُشبهين شخصًا آخر كنت أعلمه وأحبه و ارتبطت به .

فقالت و كيف أصبحتم ؟!

فقال : أما أنا مغللٌ على قلبي برباطٍ من السعير سأظل طوال عمر أتعذب منه .

وَ أمَّا هي فرباط قلبها كان حبلاً من قُطن

سُرعان ما انقطع ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا