رؤية وابداع

عندما يأتي الخريف

نسرين الزيادنه

 

بين الصوِت والصدى، في أواخر الليل، حين تنطفئ الأنوار على البعض وتنطفئ أنوار الحياة على بعٍض آخر، أجلسُ قِبالة نافذتي التي ألوذُ إليها كلّما ضجَّ في رأسي مشهدٌ فوضوي لا ينتهي، وفي هذا الديجور تحديدًا؛ رحتُ أرمي بناظريَّ نحو السماء، أُحصي بمُقلتيَّ عدد النجوم الذي لا ينتهي، أقرأ بتمعُّنٍ أحداث وقصص ترويها الشوارع، الأزقّة، وجذوع الأشجار، أحداثٌ على مرِّ الفُصول، تحكي عن الخيبات وصفعاتِ الخذلان، عن أرصفة الحب، وخطوات العاشقين والمُفارقين، تُخبرني عن الأحلام، عن ساعات الانتظار، عن دروب الوصال، عن طرق الشوق والحنين، عن الزوايا، عن الشظايا، عن الخطايا، عن الآلام.

كنتُ أتوقُ لنهاية هذه الرواية، بعد أنْ نسجت داخلي نشيجٌ مكلوم يحرقُني، وأحيَت أحداث كانت قد ماتت ودُفِنت في وقتها، لكن سُرعان ما بُثَّت فيها الحياة واستقرَّت في مُخيّلتي، وفي هذه الأثناء صوتٌ أجوفٌ خطير ورُبّما صرخةٌ أليمة غير متوقّعة انتشرت في أغوار صدري، حيثُ زحفَ المقطع الأخير منها مثل أنينٍ موجِع أجفلَ قلبي الذي كنتُ نسيتُ أنه لا يزال يمكثُ في مكانه، وأصبحت جدران صدري تتصرصر، ولمحتُ شُعيرات رأسي مُنهكةٌ تتساقط كأوراق الشجر، وتقوقعتُ في سجنِ ذكريات، كأسيرة للآلام، ثمَّ داهمتني عاصفة عصفت أفكاري الراكنة في غسقِ باطني.

وطوال هذه الفوضى، كنتُ أنظرُ بثباتٍ أليم إلى النجوم المستوطنة في السماء، الأشكال الهندسيَّة الباِسمة التي يشعُّ منها نوٌر سماويّ، وبعدَ فترةٍ عصيبة مّرت وقد أحسستني بأنني قد قطعت أحداث ثلاثين ساعة في اليوم الواحد، أأخذ نفًسا عميقًا، كأنّهُ زوارق ارتطمت بسقف صدري، ثُمَّ أُخرجُه بسُعالٍ مُفاجئ، وتنبسط أطرافي فيفقد جسمي تصّلبه، وأنحني بوجهي قليلًا عن شرفةِ النافذة مع تنهيدة بُركانيّة، وأنهضُ بسرعةِ الفهدِ عن مقعدي الكئيب قبل أن أتراجع عن هذا

القرار اللحظوي، وأفرُّ إلى فراشي مرتعشة وكأنني كنت أركض في غابة أشجارها كثيفة تغّطي ضوء القمر، ويلحقُ بي أشباح الذكريات، وبهذا أتممتُ قراءة أوراق الخريف، وأَغلقتُ الرواية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا