رؤية وابداع

على حافة النهر

بقلم : أمل المنشاوي

بغير هدى سارت خطواتي، ثابتة غير متأنية، لم أحدد لها وجهة وإنما أطلقت لها العنان تسوقني حيث تريد.
كنت قد وصلت إلى النهر عندما شعرت بألم في أصابع قدمي اليسرى، تبا لتلك الأحذية النسائية ذات الكعب العالي والبوز الضيق التي تهيم بها النساء بدعوى الأناقة. على أقرب مقعد جلست ونزعتهما وتركت قدميَّ عاريتين متحررتين من سجن الموضة الجميل، كان بلاط الرصيف باردا مما أشعرني براحة واسترخاء، رغم الحرارة النوعية في الجو، لكن كثافة الأشجار ونسمات الهواء الباردة جعلت المكان واحة خضراء تبعث في نفس الجالس فيها الهدوء والسكينة، نظرت لأمواج النهر المتلاحقة، تمر سريعا كأيامي، ونصف زجاجة تتراقص وسط مياهه كعجوز ثكلى أذهلها فراق الأحبة، فَعَلَ الفقد برأسها فِعْلُ الخمر بالسكارى، خلتني مثلها، تعبث بي الأيام، فما عدت أعي أين وجهتي، كنت شاردة في احداث نهاري، فاليوم… كدت أصفع مديري على وجهه بعد ما بدر منه من تصرف مشين أثناء اجتماع ثنائي جمع بيني وبينه، لقد أصابتني الدهشة عندما أخبرتني مديرة مكتبه بالاجتماع الثنائي العاجل، لكنني تجاوزت الأمر لعدم ملاحظتي أي أمر مريب في علاقته بأية زميلة، أو بي أنا شخصيا، اللهم إلا بعض نظرات لم أستطع تفسيرها … أو بالأحرى … لم أشأ تفسيرها! أقنعت نفسي أنه إعجاب بشخصي وذكائي وتفانيّ في العمل، رغم ما كانت تحدثني به نفسي من أن الأمر تجاوز ذلك!

على حافة النهر
على حافة النهر

للمزيد من المقالات اضغط هنا

فهو يعلم أنني زوجة، ويعلم أنني سعيدة مع زوجي _هذا ما حرصت على إبدائه للجميع_ آه لو يعلمون قدر معاناتي!!
على أية حال فقد أحببت ذلك الشعور الذي وصل إليهم، بل أعجبتني أيضا نظرات الحسد من بعضهم ! يحسدونني لأنني سعيدة !!
لا أدري لماذا لم أصفعه عندما ضم يدي بكلتي راحتيه بطريقة حنونة وقد صوب إلي نظرة أزعم أنه لم يمنحها لزوجته يوما ما وقال:
_أنت لا تعرفين مكانتك عندي!
نزعت يدي من بين يديه وقد تملكني الغضب، انتصبت واقفة و بدوت كأنني سأنزل عليه صاعقة من السماء أو سأمطره بوابل من السب والشتائم التي لم يتخيل يوما أن يسمعها من مثلي!!
لكنه الخوف، الخوف الذي أخرج بسببه من كل معاركي مهزومة، مهزومة أمام نفسي قبل هزيمتي أمام عدوي، أرتجف من الغضب و لكن تتلاشى قدرتي على المواجهة، حتى إذا خلوت إلى نفسي رحت أزبد وأرعد .. وأهدد وأتوعد … وما يحدث في النهاية …. لا شيء!!!
حكى لي مديري ذات يوم _وكان وقتها يتودد إلي كصديقة _ ونحن نتناول وجبة غدائنا، أن زوجته ما عادت تهتم لأمره، وأن الأولاد هم أصبحوا شغلها الشاغل! ندت مني نظرة حزينة حاولت إخفاءها لكنه لاحظها سريعا، فتصنع الارتباك وتلعثم ثم اعتذر قائلا
_أنا آسف، نسيت أن هذا الأمر يسبب لك الضيق
لم أجبه واكتفيت بابتسامة مجاملة فاستغلها قائلا
_تسمحين لي أن أسألك عن سبب تأخير الإنجاب لديك
ثم تصنع ضحكة خافتة متقطعة وأردف قائلا
_أنا لا أتدخل في شئون الموظفين ولكني أعتبرك .. صديقة
سكت قليلا ثم أكمل
_صديقة عزيزة!
احتفظت بابتسامتي المجاملة وشكرته على وده واهتمامه، وأكدت له أن هذا الأمر لم يعد يسبب لي ضيق فقد رضيت بقضاء الله الذي قدر أن يحرمنا من الإنجاب، وأيا كان السبب في ذلك فالمهم أن الحب الذي بيني وبين “عادل” هو الدافع لاستكمال الحياة وتخطي أية هموم.
لا أدري لماذا تخيلت وقتها “عادل ” وهو يشكو لزميلته “سلوى”_ ذات الشعر الأحمر_ إهمالي له!! لا أدري لماذا سلوى بالذات!! … قد يكون بسبب حديثه المستمر عنها وعن براعتها في العمل وجذب العملاء لشركتهم التي أصبحت كبيرة بفضلها، ووضعها المميز والفريد بين طاقم العمل، وأنها تختصه هو بإسداء النصائح ونقل خبراتها إليه.
أو … أو لتلك النظرة التي رأيتها في عينيه وهو ينظر إليها عندما التقينا بها ذات يوم بغير موعد في أحد المطاعم! لم أكن لأنتبه لها يوما لولا تلك النظرة، نظرة لا تفهمها إلا المرأة، بل هي نظرة تحبها المرأة!
نظرة تقول ما يعجز اللسان عن البوح به، يكون الرجل فيها في أعلى درجات هيامه، يكون ذلك الفارس الذي تحلم به كل امرأة على وجه البسيطة، ذلك الشاعر الرقيق والمحارب الشجاع والفتى المغامر … والرجل الناضج المحب!!
أتعلمون كيف يكون الرجل الناضج حين يحب؟ !
إنه يتأرجح بين نضوجه ومراهقته، يتجاذباه في جهتين متناقضتين، فيحمر خجلا وتختلج روحه عندما يرى محبوبته، تسري فيه حيوية الشباب ممزوجة بنضارة النضج والرزانة، فلا يتكلم إلا بإحساسه، يكون قد تخلى عن حب غرائزه وتملكه شعور بالسمو في سماء الأشواق، تطير روحه بين الأغصان تلاحق محبوبته التي داعبها النسيم فراحت تجري خلفه فرحة وكان عليه أن يراقبها من بعيد خشية أن يصيبها مكروه.
كان عادل حينها هائما لا أعلم إلى أين أوصله هيامه، صفعتني نظرته تلك فوجدتني أهرول إلى الحمام لأنظر وجهي في المرآه، أردت أن أطمئن أنني لا زلت جميلة، لا زلت فاتنته التي فعل من أجلها المستحيل فجعله ممكنا، حاولت أن أطمئن نفسي … لكنها لم تطمئن.
كل تلك الأفكار تقاذفتني وأنا أنظر إلى النهر،أخذني جريان الماء فيه وخلت نفسي بين أمواجه، أسبح .. أو … أغرق! اختنقت أنفاسي عندما حدثتني نفسي بالغرق، حركت رأسي بطريقة عصبية وأنا استنشق نفسا عميقا كما لو كنت أغرق بالفعل، حولت بصري عن النهر فانتبهت للوح رخامي أمامي عليه بعض النقوش، أمعنت النظر فإذا به كلام مكتوب بخط رفيع جدا” جئت اليوم وقد عزمت أن ألقي بنفسي في الماء؛ لكنني عدلت عن الفكرة؛ فالأعداد حولي الآن كبيرة، وخشيت أن يلحق بي أحدهم فيعيدني إلى الحياة، وأنا لا أريد، ربما أعود في وقت لاحق!”
قرأت العبارة مرات عديدة وقد شغلني أمر صاحبها عن نفسي؛ فوجدتني بغير إرادة أخرج قلمي وأكتب له “لا تفعل “
لا أدري لماذا كتبت ذلك ولكنني شعرت أني سأمنعه!
في اليوم التالي مررت بنفس المكان وكان خاليا، جلست كاليوم السابق أناجي النهر وأبثه شجوني حتى مالت الشمس ناحية الغروب، حانت مني التفاتة نحو اللوح الرخامي قبل أن أغادر فوجدت كلمة جديدة قد أضيفت! “لماذا؟ ” افتر ثغري عن ابتسامة سعيدة لم أعرف سببها فأخرجت قلمي بلا تفكير وكتبت “لأن الحياة تستحق أن تتحمل من أجلها!!”
عدت إلى البيت وقد شغلني أمر “فتى النهر” _هكذا سميته_ فلم ألحظ شرود عادل الذي اعتدته، ولم انشب معه تلك المعركة التي لا أملُّ منها كل ليلة عند عودتي من عملي متعبة فأجده ينتظرني لأعد لكلينا الطعام دون ان يكلف نفسه ويساعدني حتى ولو بحمل طبقه بعد فراغه من تناول ما فيه إلى المطبخ! لم أصرخ في وجهه، لم أعاتبه، لم أسأله حتى لم هو دائما مشغول عني بالشرود فيما لا أعرف، لم أطلب منه أن يقبلني أو يعانقني أو .. أو يدس يده في يدي فيمنحني الدفء والأمان، لم أطلب شيئا ولم أتكلم في شيء، وإنما شردت أنا أيضا كما يشرد هو، أصبح لي عالمي الخاص الذي أقضي فيه وقتي الملول في البيت الصامت، العجيب إن الوقت الطويل الممل لم يعد كافيا لاحتواء شرودي المتسائل أحيانا .. والسعيد أحيانا أخرى.
أصبحت أقضي الوقت في انتظار عودتي إلى النهر، كل يوم رسالة جديدة وشعور جديد، كنا قد اتفقنا على أن نمحو الرسائل القديمة ونكتف بالجديد فقط، يقرأها المقصود بها ثم يمحوها ويكتب الرد، هكذا احتفظنا بخصوصيتنا وسرنا معا، لا أدري كيف اتفقنا على تلك الفكرة ولم يخبر أحدنا بها الآخر، ولكننا وجدنا أنفسنا نفعلها.
أهو شعور بالخوف والقلق؟! أم شعور بالمسؤلية؟!، أم أنه شعور بخصوصية الأمر بحيث أنه لا يجب أن يطلع عليه طرف ثالث؟! لا يهم ماهو الشعور الذي اجتاحنا في تلك اللحظة ولكن المهم أني وجدت من يشاركني أفكاري، إنه يشبهني في كل شيء، في حزنه وألمه، حتى وحدته التي يعاني منها بينما يحيط به الناس من جميع الجهات؛ هي ذاتها وحدتي التي أغرق فيها والجميع من حولي يشاهدون، انتظرته وانتظرني لكنني لم أحاول أن أعرف من يكون ولم يحاول هو أن يعرف من أكون، رغم ما أثاره هذا السؤال في قلبينا من فضول.
غاب يومين عن الموعد فكدت أجن، في اليوم الثالث وجدت رسالة ” اشتقت إليك” كاد قلبي يقفز من بين ضلوعي فكتبت “Tu me manques”
كتب في اليوم التالي
_”تجيدين الفرنسية ” ثم وجه مبتسم
كتبت “أنا مترجمه”
رد “وأنا محاسب”
جلست قليلا ابتسامتي لا تغادر ثغري حتى ظن الناس بي جنونا، كان علي أن أغادر ولكن سعادتي ألحت علي أن أفعل شيئا مختلفا، فكافأت نفسي بتناول بعض المثلجات في أحد المقاهي الراقية غالية الثمن مهما كلفني ذلك من نفقة في الوقت والمال، بدأ شعور يتسرب لقلبي لم أشأ مقاومته، وعندما ذهبت ووجدت رسالة “أريد لقاءك” بدأ الخوف والقلق يتسربان إلى نفسي، لم أجب وإنما اكتفيت بوضع علامة تعجب، وجدت في اليوم التالي علامة استفهام، هربت منها ولم أكتب شيئا، في اليوم التالي كانتا علامتي استفهام، لم أجب أيضا، في اليوم الثالث وجدت عينا تذرف الدموع؛ فكتبت “غدا في الخامسة”
ندمت بعدما ذهبت إلى البيت وتمنيت لو أعود وأمحوها لكن الوقت تأخر، مر اليوم علي ثقيلا وكنت شاردة لدرجة أني لم أهتم لأمر الآخرين، أنهيت عملي وذهبت إلى المكان بخطى خائفة مترددة، كان المكان خاليا كعادته إلا من بعض الباعة وبعض المتحابين عن الشمال واليمين، جلست أنتظر وكلي أمل ألا يأت، مرت الدقائق طويلة حتى ظننتها دهرا هممت بالرحيل فإذا به خلفي يقول بصوت مضطرب
_مساء الخير
التفت ولم أجب وإنما جلست مكاني من شدة الموقف، جلس بجواري ولم يتكلم، وإنما نظر كلانا إلى النهر
لقد كان .. مديري!!
#أمل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا