مقالات

الأهل هم آفة الأبناء

عندما اتخذتُ قرار الأمومة، كنتُ أعي جيدًا أن هذا القرار سيتبعه عددٌ كبير من التنازلات. كنتُ مدركة أنني سأضع احتياجات هذا الكائن الصغير أولويةً حتى قبل احتياجاتي الفسيولوجية الضرورية للحياة، وأنني سأواجه يوميًا تحدياتٍ تفوق قدراتي، وتفوق أحيانًا أحلك خيالاتي ظلمةً.

ما كان بديهيًا بالنسبة لي، هو أن هذا القرار يتطلب استعدادًا نفسيًا وفكريًا كبيرًا. لكن ما اكتشفتُه لاحقًا في مجتمعي المحيط هو أن البديهي لم يكن بديهيًا للجميع. رأيت أن البعض يُنجب فقط من أجل الصورة المفروضة علينا في المجتمع، لاستكمال شكل الأسرة “الطبيعي”، دون أدنى إدراك لمدى عِظَم المسؤولية التي يُقبِل عليها.

كثيرون يخلطون بين “العناية” أي توفير الطعام والملبس وما إلى ذلك، وبين “التربية” التي تتطلب خروج الأهل من منطقتهم الدافئة الآمنة، والتي تستدعي تطورهم المستمر. وهنا تكمن المشكلة، وهنا تتجلى حقيقةٌ مؤلمة، لكنها ضروريةُ المعرفة: في كثيرٍ من الأحيان، يكون الأهل هم آفة الأبناء.

الفرق بين تربية الجسد وتربية العقل

فتربية طفلٍ سويٍّ نفسيًا تتطلب الكثير من الجهد. هناك فرقٌ كبير بين تربية الجسد وتربية العقل. تربية الجسد تقوم على تلبية الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية للطفل من مأكلٍ، مشربٍ، راحةٍ، ملبس. كثير من الأهل يريدون لطفلهم أن يعيش “مرتاحًا”، لكن احتياجات الطفل أعمق من ذلك بكثير.

هل تعلمون أن “الارتياح” لا يُتيح للطفل التطور؟ الإنسان لا يتطور عبر الراحة أبدًا. فاحتياجات الإنسان تمتد أبعد من تربية لحمٍ وعظام، فهناك عقلٌ يجب أن ينمو.

هرم ماسلو والاحتياجات الإنسانية

كما أوضح هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، كثيرٌ من الأهل يتوقفون عند أول درجتين فقط: الاحتياجات الفسيولوجية، ثم الحاجة إلى الأمان. وينسون أهم ما يجعل الطفل سويًّا بحق: الحاجة إلى الحب غير المشروط، والإحساس بالانتماء، والحاجة إلى التشجيع والتقدير، ثم في قمة الهرم، تحقيق الذات. وعندما نهتم كآباء وأمهات بإشباع تلك الحاجات بوعي، يخرج للعالم شخصٌ متوازن وسويٌّ نفسيًا.

الاستعداد النفسي للأمومة أو الأبوة أمرٌ بالغ الأهمية، لأن تحقيق تلك الحاجات للطفل ليس سهلًا. بل يتطلب جهادًا عظيمًا للنفس، وفي أحيانٍ كثيرة، تعلمًا ونموًا شخصيًا مستمرًا حتى ينعكس هذا بدوره على أبنائنا. لهذا السبب، لا يجب أن نُقدِم على الإنجاب لإرضاء رغبةٍ عابرة أو لإرضاء المجتمع من حولنا، بل فقط عندما نكون مستعدين فعلًا لأن نحاول، وأن نمنح أبناءنا أقصى ما نستطيع من حبٍّ ووعيٍّ ونضج.

الأبناء يتعلمون بالأفعال لا بالأقوال

الأبناء لا يتعلمون بالكلام، بل بالأفعال. فهم يراقبون أكثر مما يسمعون، ويقلّدون ما نفعله لا ما نقوله. حين يرى الطفل والده ووالدته يقومان بسلوكٍ إيجابي كالقراءة أو التعلم أو السعي للنمو الذاتي، سيمارس هو أيضًا هذا السلوك دون وعي، وسيدرك أن التطور عادةٌ طبيعيةٌ في الحياة.

أتذكر أنه في فترةٍ من الفترات كنتُ أتابع برنامجًا على “يوتيوب” يهتم بتلخيص الكتب، وفوجئت أن أطفالي—وكانت أعمارهم حينها بين الرابعة والسادسة—يطلبون مشاهدة البرنامج بالاسم، ويذكرون اسم مقدمه والبرنامج تمامًا كما ينطقه هو. صُدمت وقتها، لأنني أدركت أنهم منتبهون لكل ما أشاهده، حتى وإن لم أكن أتحدث معهم عنه.

ومن يومها، أصبحت أحرص أكثر على اختيار كل ما يُعرض أمامهم، وشجّعتهم على متابعة هذا النوع من البرامج، لأنني مؤمنة بأن ما يراه الطفل باستمرار يترك أثرًا في لا وعيه، حتى وإن لم يُدركه أبدًا. وتعلمت حينها أنني لن أستطيع تربيتهم وتهذيبهم إن لم أستطع تربية وتهذيب نفسي أولًا.

التربية في عصر مختلف

نحن لا نستطيع تربية الجيل الحالي كما ربانا أهلنا، فالبيئة التي يتعرضون لها اليوم مختلفة تمامًا: أوسع، أسرع، أخطر. ولا يمكننا حبسهم في فقاعة، فما نخشى عليهم منه يأتي إليهم داخل الفقاعة نفسها بضغطة زر.

لهذا أصبح تعلّم الأهل وطلب المشورة من المختصين عند الجهل بالتصرف الصحيح ضرورةً لا رفاهية. وتذكّروا دائمًا: أفضل هديةٍ نقدمها لأبنائنا هي إصلاح أنفسنا أولًا.


وتذكروا أيضًا أن في كثيرٍ من الأحيان… الأهل هم آفة الأبناء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى