
سوار بسوسنس… من المتحف إلى النار
سوار بسوسنس… من المتحف إلى النار
نادين حسن
في حادثة أثارت جدلًا واسعًا داخل مصر وخارجها في صباح يومٍ من أيام سبتمبر ٢٠٢٥، اهتز الوسط الأثري في مصر بخبر اختفاء سوار ذهبي أثري نادر من المتحف المصري بالتحرير. فالقطعة المسروقة ليست مجرد حُلي من المعدن النفيس فقط بل تكمن قيمتها في آثريتها حيث تعود إلى الملك بسوسنس الأول، أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين، مما يجعلها شاهد تاريخي فريد على فنون الصياغة في مصر القديمة، ودليل على براعة الصائغ المصري منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.
لكن كيف خرجت هذه التحفة من خزائن المتحف؟ وما الذي كشفته التحقيقات عن طريقة السطو؟ والأهم: ماذا يعني هذا الحادث لمكانة مصر كحاضنة لأعظم تراث إنساني؟
“السوار المسروق ليس مجرد ذهب، إنه جزء من تاريخ مصر وهويتها”
تاريخ السوار ومكانته
السوار المنهوب ينتمي إلى مقتنيات الملك بسوسنس الأول، الذي حكم مصر في فترة مضطربة من تاريخها، وتحديدًا في «تانيس» بدلًا من طيبة أو منف. عُرف بسوسنس بثراء مقبرته التي اكتُشفت عام ١٩٤٠ على يد عالم الآثار الفرنسي بيير مونتيه، وكانت مليئة بالذهب والمجوهرات.
السوار نفسه يُعد من أروع ما خلّفه، إذ يبلغ وزنه نحو ٦٥٠ غرامًا من الذهب الخالص، وتزينه خرزات كريمة من العقيق واللازورد. لم تكن قيمته في المعدن فقط، بل في الدقة التي صيغ بها والزخارف التي تجعله قطعة متفردة في تاريخ الحلي الفرعوني. هذه القيمة دفعت بعض الأثريين إلى القول إن إحدى الخرزات المفقودة منها «أغلى من الذهب نفسه».
من الخزينة إلى الشارع
حدثت عملية السطو على السوار بواسطه موظفة بالمتحف (أخصائية ترميم) يوم 9 سبتمبر ٢٠٢٥، أثناء تأديتها عملها في المعمل. استغلت وجودها في معمل الترميم حيث تُحفظ القطعة داخل خزينة حديدية، واستولت عليه مستخدمة أسلوب المغافلة. لم يكتشف غياب السوار إلا بعد أربعة أيام، وتحديدًا في الثالث عشر من الشهر نفسه. هنا بدأ شريط الأحداث يتسارع: إبلاغ وزارة الداخلية، تشكيل فرق بحث، مراجعة الكاميرات، واستدعاء العاملين. لكن هل يكفي ذلك لترميم ما انكسر؟
رحلة البيع والصهر
لم تحتفظ المتهمة بالقطعة طويلًا. فقد سارعت إلى بيعها لتاجر فضيات في منطقة السيدة زينب مقابل ١٨٠ ألف جنيه فقط، وهو مبلغ زهيد مقارنة بالقيمة التاريخية التي لا تُقدّر بثمن.
ومن التاجر انتقلت إلى ورشة ذهب في الصاغة، ثم إلى عامل بمسبك، اشتراها بـ ١٩٤ ألف جنيه. الأخير قام بخطوة مأساوية: صهر الأسورة وخلطها بمصوغات أخرى، في محاولة لطمس ملامحها. وكأن التاريخ كله ذاب في النار، ليخرج في شكل سبائك مجهولة الهوية.
القبض والتحقيقات
أجهزة الأمن لم تتأخر كثيرًا. أُلقي القبض على الأخصائية المتهمة، والتاجر، وصاحب الورشة، والعامل بالمسبك. جرى التحفظ على المبالغ المالية التي دارت في عملية البيع، وأمرت النيابة بحبس المتهمين فترات متفاوتة على ذمة التحقيق.
لكن القضية لم تتوقف عند حدود المسؤولية الفردية. فقد أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط الأثرية والسياسية:
كيف سمح النظام الأمني داخل المتحف بخروج قطعة كهذه؟
أين كانت الرقابة الدورية وجرد المقتنيات؟
وهل تكفي كاميرات المراقبة وحدها لضمان حماية آلاف القطع؟
أسئلة لم تُجب عليها التحقيقات حتى الآن، لكن المؤكد أن الحادث وضع المتحف العريق تحت مجهر النقد.
وفي النهاية سرقة السوار الذهبي من قلب المتحف المصري لم تكن مجرد حادثة جنائية، بل جرس إنذار قاسٍ يضعنا جميعًا أمام مسؤولية مشتركة: كيف نحمي تاريخنا من يد العبث؟ صحيح أن التحقيقات طالت المتورطين، لكن التاريخ نفسه قد ذاب في أفران الصاغة، تاركًا خلفه جرحًا مفتوحًا في ضمير الوطن.
يبقى ما حدث علامة فارقة تدفعنا للتساؤل: هل ستظل حماية الآثار رهينة إجراءات شكلية يسهل اختراقها، أم أننا سنشهد تحولًا حقيقيًا يضع تراث مصر في مكانته التي يستحقها؟ وهل تكفي الحادثة لتكون درسًا يوقظ المؤسسات المسؤولة قبل أن نفقد المزيد؟
كيف ترى أنت مسؤولية المؤسسات الثقافية؟ وهل تعتقد أن التكنولوجيا وحدها قادرة على حماية تراثنا، أم أن الأمر يبدأ من الإنسان؟
“الذهب قد يُعوَّض… أما التاريخ إذا ضاع فلن يعود”