مقالات

حكايات قبل النوم للكبار

حكايات قبل النوم للكبار

كتبت : سودة هنو

 

منذ أن كنا أطفالًا، ارتبطت آذاننا بصوت الحكاية قبل النوم. كانت الأم أو الجدة تجلس بجوار السرير، وتنسج من خيوط الخيال قصصًا عن الملوك والسحرة والطيور الناطقة. كنا نغفو ونحن نحمل صورًا ملونة في عقولنا الصغيرة، وكأن الحكاية مفتاح لعالم آخر. لكن السؤال: لماذا نتوقف عن سماع الحكايات حين نكبر؟ هل يصبح الكبار في غنى عن تلك الجرعة اليومية من الخيال؟ الواقع يقول عكس ذلك. فالكبار، أكثر من الصغار، يواجهون صخب الحياة وضغوط العمل وهموم المستقبل، وكل ذلك يثقل العقل ويمنعه من الراحة. هنا تبرز الحاجة إلى “حكايات قبل النوم للكبار”، ليس كترف أو رفاهية، بل كوسيلة للهروب المؤقت من الواقع، واستعادة شيء من الطفولة الضائعة. الحكاية للكبار هي شكل من أشكال العلاج النفسي والثقافي، تمنحنا لحظة صفاء، وتجعل النوم أكثر سلاسة. إنها ليست مجرد قصة، بل رحلة قصيرة نتوقف فيها عند محطة الخيال قبل أن نعبر إلى عالم الأحلام.

 

الجذور التاريخية للحكايات

 

الحكايات قبل النوم ليست اختراعًا حديثًا، بل هي عادة ضاربة في جذور الحضارات. العرب عرفوا “ألف ليلة وليلة”، الكتاب الذي ظل لقرون يخاطب عقول الكبار قبل الصغار. شهرزاد لم تحكِ قصصها للأطفال، بل رواها للملك شهريار لتبقيه يقظًا، ثم ليهدأ قلبه ويجد السلام. كانت الحكاية هنا وسيلة للبقاء، ووسيلة للشفاء في آن واحد. أما في مصر القديمة، فقد حملت الأساطير الفرعونية قصصًا عن الآلهة والصراع بين الخير والشر، تُروى لتفسير الكون وبث الطمأنينة في النفوس. وفي اليونان، جلس الفلاسفة ليحكوا أساطير عن زيوس وأفروديت، لا كألعاب فكرية بل كقصص ينام الناس على وقعها. الحكاية الشعبية أيضًا لم تكن يومًا مجرد تسلية للأطفال. في الريف العربي، كانت الجدة تجمع النساء والرجال في الليالي الطويلة لتحكي عن الغول والعنقاء، وعن بطل يهزم الشر. هذه الحكايات حملت قيمًا أخلاقية، ورسائل خفية عن الصبر، والعدل، والتكاتف. تاريخيًا، كان السرد قبل النوم جزءًا من طقس إنساني قديم: البحث عن الأمان. فالنوم هو انتقال إلى المجهول، والحكاية هي الجسر الذي يربط اليقظة بالأحلام. لذلك، لم يكن غريبًا أن يجد الكبار في الحكاية وسيلة لتخفيف القلق من المجهول، أو لتفسير أحداث الحياة بطريقة رمزية.

 

البعد النفسي للحكايات

 

من منظور علم النفس، لا تُعد الحكايات قبل النوم مجرد ترف، بل هي حاجة نفسية عميقة. حين نقرأ أو نستمع لقصة قبل أن نغفو، يبدأ العقل في التباطؤ، ويدخل في حالة من الاسترخاء التدريجي. هذا يشبه التأمل أو اليوغا، لكنه يحدث بالكلمات والصور الذهنية. دراسات حديثة تشير إلى أن القراءة قبل النوم تُحسن نوعية النوم بنسبة تصل إلى 30%، وتقلل من احتمالية الأرق. السبب أن الحكاية تخلق فاصلاً بين الضغوط اليومية وبين النوم، فتمنع العقل من الاستمرار في الدوران حول مشكلات العمل أو القلق المالي أو العلاقات. كما أن الحكايات للكبار تلعب دورًا في “المعالجة النفسية”. فحين يقرأ الشخص قصة عن بطل يواجه صعوبات ويهزمها، يترجم عقله ذلك بشكل غير واعٍ إلى قدرته هو على مواجهة تحدياته. وهكذا، تصبح الحكاية علاجًا رمزيًا للهموم. إضافة لذلك، تتيح القصص إطلاق العنان للخيال، وهو عنصر أساسي لصحة العقل. الكبار الذين يعيشون بلا خيال معرضون للتوتر والملل أكثر. الحكاية قبل النوم أشبه بمفتاح يفتح غرفة سرية في العقل، حيث يمكن لكل واحد أن يعيش حياة بديلة، ولو لبضع دقائق. إذن، البعد النفسي للحكايات قبل النوم ليس خياليًا بحتًا، بل حقيقة علمية مدعومة بالدراسات. هي ترياق صغير ضد قسوة الحياة.

 

الحكايات في الأدب الحديث

 

مع تطور الأدب في القرن العشرين، ظهر اتجاه جديد يُعيد الاعتبار للحكاية كوسيلة للكبار. فالروايات القصيرة، والقصص الفانتازية، بل وحتى الأدب البوليسي، أصبحت تُقرأ قبل النوم. كثير من القراء يفضلون قصصًا خفيفة، ذات لغة سلسة وأحداث مشوقة، لأنها تمنحهم نهاية اليوم بلمسة جمالية. أدباء مثل أنطون تشيخوف، جابرييل غارسيا ماركيز، ونجيب محفوظ، قدموا قصصًا قصيرة قد لا تُكتب خصيصًا “قبل النوم”، لكنها صالحة لذلك. لأنها تحتوي على العبرة والمتعة معًا، وتُشبع حاجة القارئ للخيال. في الغرب، انتشرت أيضًا “حكايات للكبار” بشكل صريح. بعض الكتب تحمل هذا العنوان، وتُباع على أنها قصص تهدئة ما قبل النوم. هذا اللون الأدبي صار يُعرف أحيانًا بـ “Bedtime stories for grown-ups”، يجمع بين الطرافة والفلسفة. أما على الجانب العلاجي، فقد ظهر ما يسمى “Bibliotherapy” أي العلاج بالقراءة. هنا ينصح الأطباء مرضاهم بقراءة نصوص معينة قبل النوم للتخلص من القلق والاكتئاب. وهكذا تحولت الحكاية من وسيلة تسلية إلى أداة علاجية. الأدب الحديث أعاد لنا فكرة أن الحكاية ليست ملكًا للأطفال وحدهم، بل هي غذاء للكبار أيضًا.

 

الحكايات المعاصرة: من الكتاب إلى التطبيقات 

 

في عصر التكنولوجيا، لم تعد الحكايات حكرًا على الكتب الورقية. اليوم يمكن للكبار الاستماع إلى “قصص ما قبل النوم” عبر تطبيقات مثل Calm و Headspace، حيث تُروى الحكايات بصوت هادئ وموسيقى خافتة، لتساعد على النوم العميق. كما انتشرت البودكاست التي تقدم محتوى قصصي مخصص للكبار. هناك قنوات كاملة تركز على “Bedtime Stories” تُذاع يوميًا وتستقطب ملايين المستمعين حول العالم. هذا التحول يعكس حاجة الإنسان المعاصر إلى العودة للبساطة، وسط زحام الشاشات والأخبار والسرعة. فالكبير الذي يقضي يومه غارقًا في الاجتماعات والإيميلات يجد في الحكاية القصيرة مهربًا لطيفًا، ورفيقًا هادئًا قبل النوم. كذلك، هناك اتجاه متزايد نحو كتابة قصص قصيرة جدًا، لا تتجاوز الصفحة أو الصفحتين، مخصصة للاستماع قبل النوم. هذه القصص تشبه “جرعة مسكّنة” لعقل مرهق. وفي مصر والعالم العربي، بدأ بعض الكُتّاب الشباب يكتبون “حكايات قصيرة للكبار” على منصات التواصل، تُقرأ في دقائق، وتحقق تفاعلًا واسعًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى