التاريخ والآثار

عقولٌ تشفي وأيادٍ تكتب: أسرار الطب في بردية إدوين سميث

عقولٌ تشفي وأيادٍ تكتب: أسرار الطب في بردية إدوين سميث

عبير فكري موسى

ليست أعاجيب البناء وحدها ما ميَز مصر القديمة، بل أعجوبة التفكير أيضًا؛ فقبل أن يولد أبقراط وقبل أن تُفتَتح أولى كليات الطب، وفي عصرٍ ساد فيه الجهل والخرافة؛ كانت مصر تكتب الطب بلغة العلم في وثيقة نادرة تحكي لنا كيف آمن المصري القديم بالعلم، وخطّه بحبرٍ خالد، ليعلن لنا أن أول مشرط جراحي لم يُمسَك في أوروبا، بل تحت شمس مصر القديمة.

معًا، سنتصفح هذه البردية، لا كأثر تاريخي؛ بل كنافذة على عقول سبقت عصرها ووضعت أُسسًا للطب والجراحة لا تزال تُدهش العالم حتى اليوم، في زمنٍ كانت فيه الخرافة هي اللغة السائدة.
كان الطب المصري القديم يُعتبر مزيجًا من التعاويذ السحرية والوصفات التجريبية بدون أي أساس علمي، إلى أن ظهرت هذه البردية التى تُعد واحدة من أقدم وأهم الوثائق الطبية القديمة؛ لتكشف عن مؤلف مُلِمّ بعلم التشريح والجراحة وعلوم وظائف الأعضاء، فمن الواضح أن المؤلف كان عالم تشريح وطبيبًا وجراحًا ماهرًا ووريث لقاعدة سابقة من المعرفة الطبية في إشارة واضحة إلى وجود مدارس طبية منظمة في مصر القديمة.
في عام 1862 م، وبينما كان الأمريكي إدوين سميث يتجول بين الأسواق القديمة في الأقصر، وقعت عيناه على بردية تُباع ضمن مجموعة من القطع الأثرية، لم يكن يُدرك وقتها أنه يُمسك بين يديه بإحدى أندر الوثائق الطبية في التاريخ الإنساني. اشترى سميث الجزء الأول من البردية من تاجر الآثار مصطفى أغا وبعد شهرين حصل على الجزء الثاني واحتفظ بالبردية حتى وفاته ثم تبرعت بها ابنته إلى الجمعية التاريخية في نيويورك. واليوم، تُعد بردية إدوين سميث جزءًا من مجموعة المخطوطات النادرة في أكاديمية نيويورك للطب، حيث تُعار بشكل دائم من الجمعية التاريخية في نيويورك. ونظرًا لقيمتها التاريخية الهائلة؛ لا تُعرض البردية للجمهور بشكل دائم لكنها مُتاحة للباحثين والمتخصصين في مجال علوم المصريات وتاريخ الطب.

ويُعتقد أن البردية التى كُتبت حوالي عام 1700 قبل الميلاد هي نسخة غير مكتملة من نص أقدم، ربما يعود إلى عصر الدولة القديمة (عصر بناة الأهرام). وتقدم البردية وصفًا مفصلًا ل 48 حالة إصابة في الرأس والرقبة والكتفين والعمود الفقري والصدر في ترتيب دقيق للغاية حيث تسير كل حالة طبية وفق نظام ثابت يشمل وصف الإصابة يتبعه شرح لكيفية فحص المريض ثم التشخيص واقتراحات للعلاج وتحديد لما إذا كان المريض قابلًا للشفاء أم لا.

مما يثير الدهشة أن ترتيب الحالات في البردية يبدأ من الرأس نزولًا إلى أسفل الجسم، وهو نفس الترتيب المعتمد لاحقًا في أشهر كتب التشريح التي تُدرّس حتى اليوم مثل: Gray’s Anatomy

يعكس هذا الترتيب المنهجي رؤية المصريين القدماء للجسد كوحدة متكاملة؛ تبدأ من الرأس وهو مركز التحكم والإدراك إلى باقي أعضاء الجسد وهو نفس المفهوم الذي تتبناه علوم الطب والجراحة اليوم.

وفي واحدة من أكثر الاكتشافات إثارة للجدل، تحتوي البردية على أقدم ملاحظة مكتوبة عن السرطان، وتقدم أقدم وصف للورم، وكيف استخدم الطبيب المصري القديم أساليب تعتمد على الملاحظة البصرية واستخدام اللمس لفحص الأورام وتشخيصها بشكل منهجي. كما تُقدم البردية أقدم إشارة إلى الكي كعلاج جراحي لبعض الأورام.
كذلك، عرف الأطباء القدماء مفهوم الحمى، وأدركوا أن درجة الحرارة علامة تشخيصية مهمة للأمراض، ولجأوا إلى أساليب ملموسة للشعور بدرجة الحرارة, بالرغم من أن مقياس الحرارة كما نعرفه اليوم لم يُخترع إلا عام 1709 م.
وهذا وصف للحالة (45) من البردية والتى يبدو أنها تمثل ورمًا خبيثًا في الثدي:
“إذا فحصت مريضًا به تورم صلب وغير منتظم تحت الجلد يشبه كرة من الشمع البارد لا تنضج ولا تنفتح تلقائيًا مع أوعية دموية متشعبة حوله كأقدام العنكبوت فاعلم أن هذا مرض لا يُعالج.”

هذا الوصف يتطابق مع سرطان الثدي أو الجلد المتقدم، حيث كانت الملاحظة الدقيقة كافية لتشخيص خطورته، والتفريق الواضح بين الحالات القابلة للعلاج وغير القابلة للعلاج يُظهر وعيًا واضحًا بحدود الطب البشري.

وهذه مقتطفات لبعض النصوص المترجمة من البردية تحتوي على وصف لحالات طبية:
1 – الحالة (8): كسر في الذراع:
“إذا فحصت رجلًا ذراعه مكسورة، ضع العظم في مكانه الطبيعي، ثم اصنع جبيرة من الكتان المُغمّس في الصمغ وضمدها بخشب من شجرة الأكاسيا. لا تزلها إلا بعد 35 يومًا.”
نجد هنا أن مبدأ تثبيت الكسور لا يزال قائمًا لكن باستخدام الجبائر البلاستيكية أو الجبس، كما أن العدد 35 يومًا قريب جدًا من مدة التئام العظام اليوم وهي من (4 -6) أسابيع.

2 – الحالة (12): جرح في الشفة:
“إذا وجدت رجلًا بجرح عميق في شفته، فاجمع حواف الجرح بيديك ثم خيّطها بإبرة وخيط. ضع عليها دهنًا وضمدها بالعسل والكتان يوميًا حتى تلتئم.”
إغلاق الجروح بالخياطة لا يزال يُستخدم بنفس المبدأ حتى اليوم، وإن اختلفت المواد حيث يتم إستخدام الخيوط الجراحية المعقمة بديلًا عن الكتان. كما يُستخدم العسل حاليًا في الطب التكميلي نظرًا لخصائصه المطهرة.

3 – الحالة (22): جرح نازف في الرأس:
“إذا رأيت جرحًا في الرأس ينزف بغزارة، سخن سكينًا من البرونز حتى يحمرّ، ثم اضغط به على الجرح ليُوقف الدم.”
بنفس الفكرة يُستخدم الكي الكهربائي في العمليات الجراحية اليوم لوقف النزيف، ولكن بتقنية أكثر تطورًا.

4 – الحالة (48): جرح في العمود الفقري:
“إذا وجدت رجلًا لا يستطيع تحريك ساقيه بعد سقوطه من ارتفاع مع فقدان التحكم في البول، قل: هذا مرض لا يُعالج، لأن العظم محطم والرسائل من الرأس لا تصل إلى بقية الجسد.”
تُشير هذه الحالة إلى إصابة واضحة في النخاع الشوكي والتى تمنع نقل الإشارات العصبية وهذا تشخيص دقيق مذهل.

لقد أثبت لنا أجدادنا أن الإيمان بالعلم لا يقل قداسة عن الإيمان بالحياة نفسها، وأن احترام الجسد والعقل كان جزءًا أصيلًا من فلسفة الوجود لديهم، واليوم حين نُعيد قراءة إرثهم بعينٍ واعية ندرك أن عظمتنا لم تكن يومًا في أحجام الأحجار بل في أعماق العقول.

فكل سطر تركه أجدادنا؛ يشهد بفضل مصر والمصريين على العالم أجمع، وينطق بحقيقة واحدة لا تقبل الجدل:  كنا هنا، وسنبقى خالدين في ذاكرة الإنسانية.

فلنحمل رسالتهم بفخر، ولنمض بعقولٍ تعرف قيمتها، نحو مستقبل يليق بجذور النور التى ننتمي إليها، فنحن أحفاد من أضاءوا للعالم طريق المعرفة، في وقتٍ كان فيه الأخرون لا يزالون يتحسسون  خطواتهم في الظلام.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى