التاريخ والآثار

جولة داخل معبد أبيدوس قلب مصر الروحي

في قلب صعيد مصر، وتحديدًا غرب محافظة سوهاج، تقف بقايا مدينة كانت يومًا ما مركزًا حضاريًا ودينيًا نابضًا بالحياة في مصر القديمة. إنها أبيدوس، المدينة التي حملت لقب “تا ور” (الأرض العظيمة)، والتي لا تزال أطلالها، وعلى رأسها معبد أبيدوس المهيب، تروي قصصًا عن الملوك والآلهة وأسرار الحياة الأبدية بعد مرور أكثر من 33 قرنًا.

يُعد معبد أبيدوس، المعروف أيضًا باسم معبد سيتي الأول، واحدًا من أهم وأجمل المعابد المصرية القديمة الباقية. فتصميمه المعماري الفريد، ونقوشه البارزة ذات الألوان الزاهية المحفوظة بشكل مذهل، ومكانته الدينية العميقة كمركز رئيسي لعبادة الإله أوزوريس، تجعله وجهة لا غنى عنها لكل مهتم بالحضارة المصرية القديمة وموقعًا ذا أهمية أثرية وتاريخية استثنائية.

انضم إلينا في رحلة عبر الزمن لاستكشاف تاريخ معبد أبيدوس، والغوص في تفاصيل بنائه الفريد، وفك رموز نقوشه، والتعرف على أسرار قائمة ملوك أبيدوس الشهيرة المحفوظة بين جدرانه.

أبيدوس: أكثر من مجرد مدينة أثرية

لم تكن أبيدوس مجرد مدينة عادية. اسمها القديم “آب جو” (كما ورد في الهيروغليفية) يعكس أهميتها. كانت في البداية مركزًا لعبادة المعبود المحلي “خنتي أمنتيو”، قبل أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأسطورة إيزيس وأوزوريس وتصبح المركز الرئيسي لعبادة أوزوريس، إله العالم الآخر والبعث والحساب.

حكاية بناء المعبد: بصمات سيتي الأول ورمسيس الثاني

يُنسب الفضل في بناء هذا الصرح العظيم إلى اثنين من أبرز ملوك الأسرة التاسعة عشرة:

  1. الملك سيتي الأول (حوالي 1294-1279 ق.م): هو من بدأ العمل في بناء معبد أبيدوس ووضع تصميمه الأساسي ونقش أجزاء كبيرة منه بأروع النقوش التي تعكس دقة الفن المصري في عصره. المثير للاهتمام أن سيتي الأول كان في الأصل مرتبطًا بعبادة الإله “ست”، لكن نظرًا لكراهية المصريين لهذا الإله المرتبط بالفوضى، اضطر الملك لتعديل اسمه بإضافة اسم الإله بتاح ليصبح “سيتي مرنبتاح” (سيتي محبوب بتاح)، ونقش اسمه في المعبد بصفته الأوزيرية، تأكيدًا على ولائه لأوزوريس، إرضاءً لمعتقدات شعبه الراسخة.

  2. الملك رمسيس الثاني (حوالي 1279-1213 ق.م): ابن سيتي الأول وخليفته، هو من أكمل بناء المعبد، خاصة الفناءين الخارجيين وقاعة الأعمدة الأولى، وأضاف نقوشه الخاصة التي تخلد أعماله وانتصاراته، كما هو واضح في نص التكريس الموجود على واجهة المعبد.

تصميم معماري فريد: رحلة داخل معبد أبيدوس

يختلف تصميم معبد أبيدوس عن معظم المعابد المصرية القديمة التي تتبع تصميمًا مستطيلًا. بُني المعبد بشكل أساسي من الحجر الجيري الأبيض الناصع، مع استخدام الحجر الرملي للأعمدة، ويتخذ شكل حرف L، مما يمنحه تفرداً معمارياً ملحوظاً.

  • الفناءان الخارجيان: يبدأ المعبد بفناءين واسعين (أغلب أجزاءهما حالياً مدمرة) يؤديان إلى الواجهة الرئيسية للمعبد.

  • قاعة الأعمدة الأولى (قاعة رمسيس الثاني): يتم الوصول إليها عبر منحدر قصير. تضم هذه القاعة 24 عمودًا ضخمًا من الحجر الرملي، موزعة على صفين (12 عمودًا في كل صف). الأعمدة مصممة على شكل حزم من نبات البردي، وتيجانها تأخذ شكل زهرة البردي التي لم تتفتح بعد. جدران وأعمدة هذه القاعة مزينة بنقوش من عصر رمسيس الثاني تصور مشاهد دينية وملكية، مثل تصوير الإله خنوم، ومشهد رعاية حتحور وإيزيس للملك، ومشهد تطهير الملك.

  • قاعة الأعمدة الثانية (قاعة سيتي الأول): تُعتبر هذه القاعة قلب المعبد الفني. تضم 36 عمودًا موزعة على ثلاثة صفوف (12 عمودًا في كل صف). أعمدة الصفين الأولين تشبه أعمدة القاعة الأولى (براعم بردي)، بينما أعمدة الصف الثالث فريدة من نوعها، فهي أسطوانية بسيطة بدون تيجان، تشبه جذوع الأشجار، وتعلوها كتلة مربعة لدعم السقف. يلاحظ ارتفاع مستوى أرضية هذه القاعة تدريجيًا كلما اتجهنا نحو المحاريب، مما يعوض انخفاض مستوى السقف التدريجي المعتاد في المعابد. النقوش في هذه القاعة، والتي تعود لعصر سيتي الأول، تُعد من روائع الفن المصري القديم، وتتميز بدقتها الفائقة وجمال تفاصيلها، خاصة في تصوير الملك والآلهة.

  • المحاريب السبعة (قدس الأقداس): تنتهي قاعة الأعمدة الثانية بسبعة محاريب (قاعات صلاة) متجاورة، وهو عدد غير معتاد في المعابد المصرية. كُرست هذه المحاريب من اليمين إلى اليسار للآلهة التالية:

    1. حورس

    2. إيزيس

    3. أوزوريس (المحراب الرئيسي والأكثر قدسية)

    4. آمون رع

    5. رع حور آختي

    6. بتاح

    7. الملك سيتي الأول (مؤلهًا)

    المحراب المخصص لأوزوريس هو الوحيد الذي له باب في جداره الخلفي، يؤدي إلى مجموعة أخرى من القاعات المخصصة لثالوث أبيدوس المقدس (أوزوريس وإيزيس وحورس).

قائمة ملوك أبيدوس: سجل تاريخ الفراعنة

أحد أهم الاكتشافات وأشهر معالم معبد أبيدوس يقع في ممر جانبي يمكن الوصول إليه من قاعة الأعمدة الثانية. يُعرف هذا الجزء بـ “قائمة ملوك أبيدوس” أو “جدول أبيدوس” أو “قائمة العرابة”.

  • المحتوى: تضم هذه القائمة نقشًا تاريخيًا هائلاً يسرد أسماء 76 ملكًا حكموا مصر، بدءًا من الملك مينا (نارمر) موحد القطرين (مؤسس الأسرة الأولى) وصولًا إلى الملك سيتي الأول نفسه (الأسرة التاسعة عشرة).

  • الأهمية: تُعتبر هذه القائمة مصدرًا تاريخيًا لا يقدر بثمن لعلماء المصريات لترتيب تسلسل ملوك مصر القديمة.

  • المشهد المصاحب: يبدأ النقش بمشهد يصور الملك سيتي الأول وابنه الأمير (الملك لاحقًا) رمسيس الثاني وهما يقدمان القرابين ويقدمان البخور ويتلوان صلاة للأسلاف من الملوك، طالبين منهم ومن الآلهة بتاح-سكر وأوزوريس مضاعفة الهبات والرخاء.

  • ملاحظات: من المثير للاهتمام أن القائمة تتجاهل ذكر بعض الحكام، أبرزهم الملكة حتشبسوت، وملوك حقبة العمارنة (إخناتون، سمنخ كا رع، توت عنخ آمون، آي)، ربما لأسباب سياسية أو دينية تتعلق بعدم الاعتراف بشرعيتهم الكاملة في نظر سيتي الأول.

  • أجنحة أخرى: يؤدي الممر الذي يضم القائمة أيضًا إلى قاعات أخرى مخصصة لآلهة مثل نفرتوم وبتاح-سوكر، وممر آخر يؤدي إلى السطح.

أهمية معبد أبيدوس اليوم

لا يزال معبد أبيدوس يقف شامخًا كتحفة فنية ومعمارية ووثيقة تاريخية حية. إنه ليس مجرد بقايا أثرية، بل هو:

  • شاهد على التاريخ: يروي قصة تطور الدين والمعتقدات والفن والعمارة في مصر القديمة.

  • مركز للبحث الأثري: منطقة العرابة المدفونة المحيطة بالمعبد لا تزال تخفي الكثير من الأسرار والكنوز التي لم تُكتشف بعد.

  • وجهة سياحية فريدة: يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم بفضل نقوشه الملونة المحفوظة جيدًا، وتصميمه الفريد، وأجوائه الروحانية العميقة.

إن زيارة معبد أبيدوس هي تجربة لا تُنسى، فهي رحلة إلى قلب مصر الروحي، وفرصة للمس التاريخ والشعور بعظمة حضارة بنت وخلدت إرثها على ضفاف النيل. من قدسية أوزوريس إلى سجل الملوك، يقدم المعبد نافذة فريدة على عالم الفراعنة المعقد والرائع.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى