
فن التحنيط رحلة المتوفى من الموت إلى الخلود
بقلم الباحثة / مي نعمان
لاشك أن تطور المفاهيم العقائدية لدى المصرى القديم قد ساهم بشكل ملحوظ جداً فى ممارسته الدنيوية وأهدافه لشكل حياته التى يريدها بعد الموت ..

أعتقاده المؤكد بالبعث ووجود عالم آخر ينعم فيه بالدوام والنعيم بعد مروره على مراحل حتى يصل إلى ذلك النعيم الدائم كانت أول تلك المراحل وأهمها بدون شك هى ” الحفاظ على الجسد صحيح والقلب حتى يستطيع ممارسة حياته الأخرى بشكل دائم وبصورة كاملة ” ، ولذلك كانت فكرة ” التحنيط ” ليست رفاهية ولكنها ذات أهمية بالغة لأنه ببساطة “إذا لم تمتلك الجسد والقلب بحاله جيده لن تستطيع الخلود فى الحياة الآخرى ولن ترجع إليك روحك مره ثانية”
وبهذا أمتلك الكهنة المتخصصون بهذا الفن أعلى مكانة فى المجتمع بل كان التحنيط هو سر ينقله الكاهن إلى أولاده ولا أحد يستطيع التدخل بهذا الأمر سواهم .

تنبه المصريون منذ وقت مبكر لأهمية حفظ الجسد لذلك نشأت العديد من التقنيات بالتدريج غايتها الحفاظ على الجسد بأساليب صناعية بالإضافة لزيادة الأشياء التي وضعت حول المتوفى لمساعدة فى حياته الأخرى والاستمرارية .
من خلال ما وصل إلينا حتى الآن نستطيع معرفة مكونات التحنيط الأساسية وهى:
أولا: استخراج الأحشاء الداخلية
ثانياً : لف الجثمان بلفائف
ثالثاً : استخدام الدهان والراتنج
رابعاً : ” حمام” النطرون .
تعتبر هذه القائمة وإن لم تكن تفصيلية عن التحنيط لا تتقيد بترتيب زمنى ولا بتنفيذها كلها فتختلف على حسب طريقة التحنيط المختارة للمتوفى وهو الأمر الذي يفسر التفاوت فى حفظ الاجساد فى مصر القديمة طبعاً كل ذلك مع مراعاة مدى التأثير الضخم للعوامل الخارجية على الجثث وحفظها ، ولكن بمرور الزمن تقدم الفن عند المصرى المصرى حتى وصلت إلينا أجساد محفوظة بغاية الدقة والجمال .
ولعل ما وصلنا إلينا من مقابر الدولة القديمة يكشف لنا صورة عن المفهوم العقائدي بأن الملك هو ابن الإله والذى يجب الحفاظ على جسده بصوره صحيحه وكامله ، وكان الأسلوب المتبع حتى نهاية الأسرة الثالثة عبارة عن ” لف المتوفى بأقمشة مشبعة من الراتنج وبفضل ذلك فإن أكثر ما وصل إلينا هو بعض القوالب المجوفة للأجساد التي عولجت على هذا النحو هذا ما تشير إليه ” قدم عثر عليها فى هرم جسر وتعود إلى مومياء الملك ” ولم تصلنا من هذا العصر أى جثة ملكية .
ولكن كان مطلع الأسرة الرابعة خطوة كبيرة فى هذا المجال ، حيث وصل إلينا أن الملكة ” حتب –حرس ” زوجة الملك ” سنفرو” ووالدة الملك ” خوفو” تم بالفعل استخراج أحشاء بطنها وقد قامت ريزنر ” عام 1925 م على مقربة من هرم خوفو فى حجرة صغيرة في قاع بئر على جزء من الأثاث الجنائزي الخاص بالملكة وكان يضم فيه صندوق من الالبستر يتكون من أربعة عيون بها بقايا الأحشاء ملفوفة فى نسيج كتانى وكان كل ذلك مغمورة في محلول نطرون ، نستنتج من هذا الأكتشاف أنه تم التوصل إلى أهمية نزع الأحشاء من الجسد حتى يصُلح التحنيط وتجنب تحلل الجسد ، من ناحية أخرى نجد أن العثور على رفات الأمير ” رع نفر” يعتبر مثال جيد للتعبير عن التحنيط فى هذا الوقت حيث تم لف الجسد بأقمشة مشبعة من الراتنج وشكلت ما يشبه قالب وتم استخراج احشاء البطن وتم لفاها فى كوة صغيرة ووضعت داخل إحدى حوائط حجرة الدفن ولكن بعد ذلك تطورت الفكرة ليصبح هناك أواني مخصصة لحفظ الأحشاء وتسمى ” الأوانى الكانوبية ” التي كانت محفوظة برؤوس الألهه .
النموذج الكامل الذي وصل إلينا من الدولة القديمة يخص مومياء من الأسرة الخامسة وهي ” مومياء رجل في حالة جيدة من الحفظ وضعت في تابوت خشبي فى قاع بئر، الأقمشة التي لفت بها كانت مغطاة بالجص وأتقنت صناعته بحيث يظهر تقاطيع الجسد ولونت اللحية والشارب وأضيفت لحية مستعارة من القماش ” ، وأحيانا كان يوجد قالب مخصوص للرأس كدليل واضح على أهمية حفظها ووجودها سليمة للعبور للعالم الآخر .
وهكذا أستمر المصرى القديم يطور فى فن التحنيط حتى أعجز العالم الحديث بأكمله أملا منه فى مواصلة الحياة بعد الموت والنعيم بها فى أكمل صورة جسدية ممكنة…