” حقائق مثيرة عن تزوير الآثار بالتقنيات الحديثة وتزييف التاريخ ”
✍️بقلم الباحثة: إيمان سيد رمضان
تزوير الآثار بالتقنيات الحديثة تزييف التاريخ :
وفي الآونةِ الأخيرةِ دأب المزيفون والمزورون على تقليد ومحاكاة النماذج والأصول الأثرية بموادٍ بعضها مخلق والآخر من خلاصة ومساحيق المواد المستخدمة في تنفيذها ، حيث يلجأ هؤلاء إلى استخدام بعض البوليمرات مثل عديد الإستر Polyester المخلوط بمساحيق الأحجار والملونات، وبأسلوب الصب والقوالب في إنتاج نماذجهم المزيفة بشكل احترافي فريد .
وآخرون إلى استخدام مساحيق ومجروش الصخور والأحجار مع إضافات أخرى كخام الحديد الزهر”برادة الحديدIron filings والملونات، وبأسلوب الصب أيضاً لإنتاج تلك النماذج والمستنسخات ، وخضوع بعضها للمعالجة السطحية أو التقادم المعجل حسب نوعه المطلوب وفق الغرض المحدد للمطابقةِ والمماثلة، وهي حالة يمكن معها فقط الاستعانة ببعض الاختبارات والقياسات ، حيث تعطي في الحالة الأولى رائحة اللدائن عند حرقها ، لكنها وفي مقام آخر لا تتأثر باختبارات الذهب بالماء الملكي Aqua regia “حامض النيتريك+حامض الهيدروكلوريك” أو حمض الكبريتيك H2SO4 إذا ما كانت مذهبة ، ما يضع القائم دراستها وفحصها في حَيرةٍ من أمره، وتعطي الثانية توزيعاً عشوائياً غير بلوري عند دراسة تبلورها وانفصام بلوراتها بالمجهر المستقطب مثلاً، وهو حال بعض الصخور بركانية الأصل والمنشأ، وعليه فهو اكتنافٌ معقدٌ لا يفك أو يفسر طلاسمه إلا اختصاصي الصيانةِ والترميم الماهر بمساندة من جيولوجي وآثاري خبير .
وإذا ما كان الأمر يتعلق بمقتنيات الذهب ونماذجه تماثيل الأوشابتي ، الآنية، المصفحات، الخواتم والحلي المختلفة وغيرها، فهل يكفي أن تكون من الذهب توصف بأنها أثرية، بالطبع لا، المزورون يستخدمون الذهب الخالص محاكاةً النماذج الأثرية في صنع وتشكيل وتكفيت أو تصفيح نماذجهم المزيفة تلك، وعليه فإن القائم بفحص ومعاينة مقتنيات الذهب باستخدام عدسة مكبرة علي سبيل المثال لا بد وأن يجد التشققات غير المنتظمة في نماذجه الأصلية ، يقابلها أسطح ملساء ناعمة لا تعتريها تلك التشققات في نماذج المحاكاة المزيفة ، وهنا يبرز دور وخبرة اختصاصي الصيانة والآثاري لحل تلك الإشكالية دون الاعتماد فقط على تحديد مادة الأثر كما أشير سلفاً.
أما إذا تعلق الأمر بالمواد العضوية من أصل نباتي أو حيواني كالبردي، الجلد، الرق، البارشمنت، الخشب، الورق، النسيج، النماذج المصبرة و المحنطات…..، لاختبار النارأو الحرق للسليلوز والبروتين، الفلورين للعظام والبقايا الآدمية ، قياسات التغير اللوني باستخدام أجهزة قياس اللون Colorimeters أو أجهزة قياس طيفه Spectrophotometers تعد كلها ناجزةً في الفصل بين النماذج الأثرية وتلك المزيفة في حالة اختلاف مادتها ، أما إذا تطابقت في هذا فلا طائل منها ، في الرماد المتخلف عن الحرق واحد،الرائحة واحدة، التغير اللوني متطابق ، والصفات الظاهرية والسطحية واحدة، ما يدعم ملكة كشف المزيف من الحقيقي والخبرة المكتسبة مع الوقت في كشف زيفها أو تزويرها من عدمه، هذا باختصار شديدٍ دونما إسهاب وتفصيل.
ولكل هذا ونظيره وتتمةً له، فإن المسألة تمثل اكتنافاً معقداً لا يمكن الاعتماد فيه فقط على ما ورد بكل تلك الأطروحات والأفرودات دليلاً وشاهداً لكشف زيف النماذج المقلدة أو أوجه التزوير وملامحه في النماذج الأثرية دون الاعتداد بالحس الأثري والخبرة والدراية بالجوانب الفنية التي تلاحظها العين وتميزها، مع الاستناد إلي فهم طبيعة وكيمياء مواد الآثار وتفاعلاتها المميزة لها عند تقادمها طبيعياً بالتدريب المتواصل والتطبيق الفاعل لآليات التحقق من أصالة المواد والنماذج المختلفة…
قوة كفاءات مصر البشرية :
تمتلك مصر قوة بشرية متمثلة في كفاءات في مجالات كثيرة ومنها الآثار،والتي تتطلب يقظة دائمة لحماية كنوز وتراث الوطن من العبث به وخلط المزيف مع الأصلي من قبل ضعاف النفوس،والذين يستبيحون لأنفسهم المساهمة في سرقة آثار مصر.
وقد شهدت السنوات الماضية حالات نصب كثيرة وقع ضحيتها كثيرون،حيث لم يعد الأمر مجرد احتيال مزوري الآثار بصناعة نماذج بدائية وسيئة،بل هناك متاحف عالمية كبرى تقتني آثارا مهمة اكتشفت بعد سنوات أنها مزيفة وليست أصلية.
إذا هذا الأمر يتطلب مضاعفة جهود الأثريين العاملين بالآثار وهو ما قاموا به بالفعل قدر المستطاع،لكشف أي تزييف للمواد والأحجار المستخدمة في تشكيل النماذج الأثرية قديماً، وتزوير النماذج الأصلية بالحذف أو الإضافة للتضليل وطمس الحقائق.
العملات الأوشابتي :
في البداية كشف د.علي أحمد أحمد المشرف الأسبق على المكتب الفني لوزير الآثار أن العملات و تماثيل الأوشابتي أكثر ما يتم تزييفها،ومنذ عام 1912 حتى عهد الملك فاروق انتشرت عمليات تقليد بارعة للأثار،وأغلبها كان لعائلة إخناتون وتماثيل أوشابتي،وكان المزور يأتي من أي معبد بقطعة حجرية قديمة بلا نقوش،ليقوم هو بنسخ أي نقش أصلي عليها،أو أن يأتي بلوحة حجرية من معبد لا تحمل أي نقوش ويقوم بنقشها،ثم يأتي بكتان مومياوات من مقابر مجهولة ويكفن الكتلة الحجرية به،ويدفنها في الأرض لفترة لتكتسب صفات الأثر القديم.
وعن فكرة وجود قطع مزيفة في المتاحف الكبرى بالعالم،قال أن متحف اللوفر كانت به قطعة طوال عشرات السنين،وبعدها تم التأكد أنها غير أثرية وتم حذفها من كتالوج المتحف،وفي بلجيكا رأيت في أحد متاحفها قطعة شككت في أثريتها،وبعد فحصها تم التأكد أنها فعلا غير أثرية وقالوا أنها إهداء من قنصل بلجيكا في الإسكندرية واشتراها من تاجر على أنها أثرية،والقنصل أهداها للمتحف.
محاولات إستنزاف للتراث :
تفاصيل أخري ورؤية مختلفة كشفها لنا الدكتور أحمد بدران أستاذ الآثار المصرية بكلية أثار جامعة القاهرة،حيث قال أنه في مصر هناك قطع أثرية في المخازن والمتاحف مشكوك في أثريتها وحقيقتها، كما أن أعظم المتاحف في العالم مثل اللوفر و الميتروبوليتان والبريطاني وبرلين كانت بها في بعض الفترات قطع ليست أثرية
وأكد علي أن عدم التحقق من أصالة القطع الأثرية يمثل استنزافا للتراث والهوية،لافتا أن الموقع الذي تم إستخراج القطعة منه وتنسب إليه من أبرز عوامل كشف حقيقة الأثر من زيفه،كذلك البيئة المحيطة ودلالاتها،وما يمثله للحضارة والعصر الذي ينسب إليه، كما أن النص والكتابات والخرطوش له دور كبير جدا في التحقق من أثرية القطعة،كذلك مادة الصنع وطبيعتها والعلامات التي تؤكد أثرية القطعة.
وأشار إلي وجود 3 مصطلحات مهمة يجب التفريق بينها في هذا الإطار،أولها”ريبيكا”وهي نسخة طبق الأصل، وصناعتها لا بد أن يكون أمام الصانع النموذج الأصلي للقطعة الأثرية نفسها،و”كوبي”وهي نسخة مقلدة وتصنع بناءا على مفهوم العصر الذي ينتمي له الأثر،والثالث هو القطع التي تستخدم في عمليات النصب والإحتيال بالإيحاء أنها حقيقية.
وعن الحل من وجهة نظره،قال بدران:لا بد من إنشاء مركز علمي يضم خبراء من تخصصات مختلفة بجانب تخصصات الآثار،وهذا المركز يضع معايير للكشف عن أصالة الأثر ومدي أثرية القطعة من عدمها.
الحس الأثري والعين المجردة الخبيرة :
الدكتور مدين حامد عبد الهادي مدرس علاج وصيانة المخطوطات والوثائق الأثرية بكلية الآثار جامعة الفيوم،كشف عدة وقائع ذات دلالات مهمة في هذا الإطار،منها تمثال أسيوط في 25 أغسطس 2017م،حيث تم الدفع بـ أثرية تمثال من لجنة شكلتها وزارة الآثار استناداً إلي مادته وتطابق ملامحه ودقة تشريحه والفترة الزمنية له،هذا رغم زيفه الواضح من خلال الحس الأثري والعين المجردة الخبيرة، ما دفع وزارة الآثار لإعادة فحصه ومعاينته ليثبت زيفها وعدم أثريته.
كذلك آثار مكتشفة بمنزل مواطن في إدفو بأسوان في 25 سبتمبر 2017م، والحكم بأثرية نماذجها عند المعاينة رغم زيف لوحتي تقديم القرابين من الحجر الرمل والجيري ضمن محتوياتها، فلا وجود لمظهر القدم الطبيعي علي سطح مادتها مطلقاً.
ومصحف جامعة برمنجهام البريطانية في 14 سبتمبر 2017م،حيث قدر باحثو الجامعة عمره إلي ما قبل بعثة النبي محمد”ص”اعتماداً علي النتائج التي حصلوا عليه من تقدير عمره بالكربون المشع،دون الوضع في الاعتبار مادة تدوينه من حبر لم يحددوا ماهيته،وإن كان التقدير حقيقياً – رغم نسبة الخطأ الواردة – فلم يدرك هؤلاء أن حوامل المخطوطات قد يجري تحضيرها في فترة تسبق زمن تدوينها أو نسخها، ورغم استخدام تلك الجلود قبل وبعد بعثة رسولنا الكريم ، لكنه محض افتراء بمعاونة من الجانب الإسرائيلي في هذا الوقت للنيل من عقيدتنا وتاريخنا.
تزوير وتقليد البرديات :
وهناك أيضا البردية المعروفة اعلامياً ببردية زواج السيد المسيح عليه السلام ، والتي بيعت من قبل أحد الباعة الجائلين لأحد المتاحف الألمانية ، وكانت مزورة نظراً لاستخدام قطعة أثرية من البردي غير المدون والخالي من الكتابة لتدوين وتكتب بخط قبطي لم يرد في فترة حياة السيد المسيح.
وأوضح مدين أنه أورد الاختصاصيون والآثاريون العديد من الملامح والمعايير التي يمكن الاعتماد عليها في كشف زيف وتزوير تلك النماذج ، لا سيما تلك الحاسمة من وجهة نظرهم في هذا المضمار كمادة الأثر أو المقتني، لونه، وزنه، أبعاده، طريقة نحته أو تشكيله ، نسق وشكل الكتابات والنقوش،مع وسائل الكشف كاختبارات الحرق ، الملمس، الصلابة، المخدش، الصلادة……، فضلا عن استخدام طرق وتقنيات تقدير العمر كالوميض والتألق الحراري Sl للفخار والآجر”الطوب الأحمر” ، الكربون المشع 14 ، اختبار الفلورين للعظام و البقايا الآدمية ، حلقات الخشب، هجرة المركبات والعناصر وفق معدلٍ زمني…
بعض المعادن وهي تظهر وهجا لماعا عند تعريضها للأشعة الفوق بنفسجية :
إلى جانب نتائج الدراسة بتقنيات التصوير والتحاليل والأشعة فوق البنفسجية، الأشعة تحت الحمراء ، ضوء الصوديوم، تعددية الأطياف Multi Spectral ، حيود وتفلور الأشعة السينية XRD and XRF وتقنياتها ذات الصلة ، الفصل الكروماتوجرافي للملونات والصبغات، طرق الفحص بالمجاهر المختلفة الإلكتروني الماسح SEM, المستقطب PM…..، طرق التنشيط الإلكتروني والنيتروني…..وغيرها، واستكمالا بمشاهدات الفحص بالكواشف الكيميائية وطرق التحليل الكيميائي الأخرى مما لا يتسع المقام للحديث عنها بشكلٍ حصري.
ورغم هذا فإن تلك النتائج التي يمكن الحصول عليها من تطبيق هذه المعايير وطرق التحليل والفحص لا تحقق يقيناً كاملاً للفصل بين الحقيقي والمزيف من جهة ، ولا تكشف ملامح التزوير في النماذج الأصلية لسببين،أولهما أن الكثير منها لا يعطي نتائج دامغةً مباشرة ، وتحتاج إلى خبير على دراية واسعة بالنتائج التي تفرزها تفاعلات تلك المواد ، وتغليفها خلفية تاريخية وفنية، مع الإلمام دوماً بأشكال ونماذج الكتابات، النقوش والزخارف.
والسبب الثاني أن بعض تلك التقنيات والمعايير لا تفي بالغرض المقدم سلفاً، لا سيما وإن تطابقت النماذج المزيفة ونظيرتها الأثرية ، ففي الحالتين تعطي طرق التحليل نتائج متشابهة إلى حدٍ كبير، كما أن المقارنة بين الكتابات والنقوش والزخارف غير دامغة فيهما التناظر مفرداتها أيضاً.
وتابع: الاعتماد على المعايير والتقنيات التي أشير لها سلفاً من قبل اختصاصي الترميم والآثاريين إنما هي أمور استرشادية غير دامغة للدفع بأثرية اللقي والنماذج المكتشفة أو الواردة بالضبطيات ومقار المعاينات والمنافذ الأثرية،ولا تمثل إلا وسائل مساعدة إذا ما كانت هناك شكوك أونقص في الخبرة وغياب الحس الأثري لدى المنوط بهم معاينتها أو فحصها ، لاسيما وأنها لاتعطي إلا نتائج تحتاج إلي تفسير وتحليل من قبلهم ، وإلا ما كانت بعض المتاحف الأوروبية قد أودعت بقاعات عرضها نماذج مزيفة وأخري مزورة في أصولها رغم امتلاكهم الإمكانات والتقنيات اللازمة للتحقق من أصالتها و أثريتها.
ما حدا بوزارة الآثار إلي التفكير والقيام بإنشاء مركز لكشف تزييف وتزوير الآثار، مع الأمنيات بأن يؤسس تأسيساً علمياً يناط به ومنه تحقيق الأهداف التي شيد من أجلها، وخلق جيل من الآثاريين واختصاصي الترميم المهرة لخدمة الشأن الأثري في هذا المضمار وفي كافة مواقعه.
وقدم مدين تحليلا علميا وسائل ومعايير كشف تزييف الآثار،مشيرا إلي أن تلك المعايير والتقنيات تعتبر مفيدة إذا ما اختلفت مواد الصنع والتشكيل للمزيف والحقيقي، لكن ما الحال حيال النماذج المزيفة التي تطابق نظيرتها الأثرية؟،هنا تبقى العين الخبيرة لاختصاصي الترميم والآثاري هي المنوط بها كشف ملامح ودلالات التزييف والتزوير بشكلٍ جلي يدمغ حجة صاحبها ويدحض آراء المعارضين له،بجانب المهارةٍ وحسٍ الأثري،وهو ما يجنبنا استخدام أدوات ومعدات للفحص والمعاينة،الكثير منها يعد متلفاً مادة الأثر وهو أمر مرفوض.
واعتماداً على مسألة التشريح والملامح الفنية لمدارس النحت والتصوير المختلفة كأن يقال أن تماثيل خفرع نظرة للأعلى أو المثالية والواقعية أو لأمور تقتضيها الظروف والعقائد، وغير ذلك من السمات الفنية الفاصلة بين المزيف والحقيق- حسب نظرياتهم- فإنها لا تؤسس إلا للبحث عن ملامح التطابق والتناظر سمات معينة لفترةٍ زمنيةٍ محددةٍ وعصرٍ معين،لكن هل يعد هذا دليلاً دامغاً على أثرية وأصالة النماذج محل المعاينة والفحص، لا بل هو خطأ بدوره ، لا سيما وأن هناك تقنيات وأدوات حديثة يمكنها محاكاة الأصل ومعالجته بمنتهى الدقة والاحترافية مثل 3D Scan and، وعليه فالعين المجردة المدربة هي الفاصل والدامغ في هذا.
التقليد الاستنساخ والتزوير :
ويجدر بنا أن نفرّق بين كل من التقليد والاستنساخ، وبين والتزوير والتزييف؛ فالتقليد أو الاستنساخ يعنيان محاكاة الأثر، أو خلق نموذج أو نماذج مشابهة للأثر الأصلي، أو القطعة الفنية، أو اللوحة الأصلية، ونقلها نقلاً يوفر حدًّا من التشابه بينهما. ويطلق على هذا العمل عملاً مستعارًا، أو مقلدًا، أو مستنسخًا، أو مصطنعًا. وقد يكون هذا العمل، الذي لا يقصد به الغش والخداع، أمرًا مشروعًا أو مقبولاً، بل قد تقتضيه الضرورة، كوسيلة من وسائل التوثيق والحفظ في حالة فقدان الأثر، أو العمل الفني الأصلي، أو حفاظًا عليه من السرقة والتشويه.. وهذا ما تمارسه بعض المتاحف، وقد نجده في بعض المواقع الأثرية، وكذلك في حالة استخدامها مستنسخات تعليمية لطلاب الفن وغيرهم من الدارسين، أو لفاقدي البصر، أو لأغراض تجارية، كأن تُباع ومعروف أنها غير أصيلة. وهي تجارة رائجة في العديد من دول العالم. وجميع هذه الأعمال لا تدخل ضمن التزييف أو التزوير.
أما التزوير والتزييف يعني نسخًا للتحف الأثرية بغرض الغش والخداع، وإعطاء قيمة ثقافية وفنية ومادية لشيء غير أصيل، أي إيهام الغير بأن هذا العمل المزور هو الأثر الأصلي بنية الاحتيال والانتفاع من وراء ذلك بغير حق. وقد يعني التزييف تغيير بعض معالم الأثر لغرض ما، والتقليل من قيمته، أو لرفع قيمته، أو لتغير حقائق تاريخية، أو غيرها.
وتقليد الأعمال الفنية تقليد قديم قدم الحضارات القديمة؛ فقد كان ظاهرة شائعة في أواخر العصور الفرعونية؛ ففي العصر المتأخر، خاصة الأسرة السادسة والعشرين (664 – 525 ق.م)، شاع تقليد أعمال الدولة القديمة (2780 – 2263 ق.م)، كما شاع في عهد الرومان تقليد بعض الأعمال الفنية للإغريق. وكذلك كانت عملية تزوير أو تزييف الآثار والأعمال الفنية قديمة قدم الرغبة الإنسانية في تضليل الآخر وخداعه؛ فقد ظهر التزييف في بعض العصور الفرعونية القديمة كما كان الحال في طمس أسماء بعض الملوك من على أعمال فنية نحتية ومعمارية، ونقش اسم فرعون آخر كوسيلة من وسائل الانتحال أو اغتصاب حقوق الغير ونسبتها لغيرهم. وفي عهد الرومان كان بعض الفنانين الثانويين يصنعون الأثر، وينسبونه إلى أساتذة الفن القدامى، وذلك بأن يزيلوا تواقيع مزورة لهؤلاء الأساتذة. ومن صور التزوير أيضًا الانتحال في الشعر العربي، وكذلك وضع الأحاديث ونسبتها إلى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -.
عقوبات يحاسب عليها القانون المصري :
وفي قانون الآثار المصرية الصادر عام 2010م تقر المادة الـ (39) بأحقية المجلس الأعلى للآثار وحده في أن ينتج نماذج للآثار، على أن يتم ختمها منه، وللمجلس الترخيص للغير أو بالتعاون مع أي جهة يحددها بإنتاج هذه النماذج، على أن تكون بمواصفات مخالفة للأثر الأصلي التي يصدر بتحديدها قرار من الوزير. ويحظر تداول أو سفر أية نماذج يتم إنتاجها بالمخالفة لهذه المواصفات. وفي المادة الـ (45): «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 5 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه مصري، ولا تزيد على 50 ألف جنيه كل من زيّف أثرًا من الآثار القديمة».
وواقع الحال يقول إن ذيوع هذه الظاهرة في مجتمع من المجتمعات المهددة لتاريخه، وحضارته، وذاكرته الوطنية، وراءه «مافيا» من المزيفين المحترفين الذين برعوا في تزييف مختلف أنواع المقتنيات الأثرية والأعمال الفنية، واستعانوا بتقنيات حديثة وأساليب متطورة لإحداث مظاهر مصطنعة للتقادم على القطع المقلدة؛ حتى يصعب التفرقة بينها وبين مظاهر التقادم الطبيعي على القطع الأصلية. وخلف هؤلاء هناك «مافيا» أخرى من المروجين والمسوقين لها، والنتيجة أن تلبّس الأمر، وأصبح من المتعذر التفرقة بين ما هو أصلي وما هو مزيف ما لم يخضع للفحص والتحليل والدراسة.
من هنا تأتي الحاجة الملحة إلى وجود خبراء متخصصين بعلم بأصول وقواعد كشف تزوير الآثار والأعمال الفنية. والحقيقة، إن عملية الكشف عن أصالة الأثر أو العمل الفني عملية لا يمكن أن يقوم بها فرد أو خبير متخصص واحد، بل هو عمل جماعي تكاملي، يتم في إطار تعاون مؤسسي بين جهات أكاديمية وبحثية كفريق واحد. ومن المفترض أن يتضمن هذا الفريق آثاريًّا متخصصًا، وأخصائي ترميم وصيانة، يكونان على دراية بطبيعة المواد الأثرية القديمة وخاماتها، وتقنيات صناعاتها، ومؤرخًا أو دارسًا للفن الذي ينتمي إليه الأثر أو العمل الفني، وكيميائيًّا ملمًّا بطبيعة وتركيب المواد الأثرية القديمة وتفاعلاتها، ومظاهر التغيرات على موادها، وفيزيائيًّا على دراية بكيفية فحص وتحليل الأثر فحصًا علميًّا؛ للتأكد من تركيبه الدقيق الداخلي ومظهره الخارجي، ورصد ما أصابهما من تغيرات وتحولات.
وعادة ما يصاحب هذه العملية ويلزمها عملية تأريخ للأثر أو العمل الفني، وتحديد عمره الزمني، تلك التي تتطلب آلية غير متلفة له.
خطوات لتفرقة الآثار الأصلية من المزيفة :
وهناك خطوات يمكن الاعتماد عليها في التفرقة بين ما هو أصلي وما هو مزيف، تأتي في أولها المعاينة البصرية، التي قد تغني عن الحاجة إلى تحليل أو تقنية علمية؛ بالمعاينة البصرية المبدئية قد تزودنا بمعلومات عن نوعية الأثر، وحالته، والتغيرات التي طرأت عليه، وقد تساعد في التعرف على تقنية صناعته، أو عيوب في إنتاج، نوع الزخرفة، أو أماكن الوصل، وإذا كان هناك تذهيب أو تفضيض أو تطعيم أو تكفيت. وكذلك اللون وحالته، والسطح وطبيعته ومظهره. وتعد الخبرة الشخصية عاملاً مهمًّا في المعاينة البصرية؛ فالعين الخبيرة المدربة قادرة على تمييز أخطاء الصناعة أو الزخرفة أو الرسم وأسلوبه، أو طريق استخدام الفرشاة، أو أصناف الألوان. والآثاري المتخصص من المفترض أن يكون ملمًّا بالتاريخ، وعلى دراية بالنقوش والفنون الأثرية للفترة التاريخية المطلوب الكشف عنها. ولا شك في أن هذه الحاسة قد تتفاوت من آثاري مخضرم وآثاري مبتدئ، وكذلك غيرهما من الهواة.
وقد يصاحب المعاينة البصرية تفحص الخواص الفيزيائية، ومنها اللون، والوزن، والصلادة، والملمس وغيرها.. فلكل مادة لون يميزها عن غيرها إلا أن هذا اللون يمكن تزييفه أو تغييره، كما يمكن أن يتم تغطيته بلون آخر؛ وبالتالي يمكن تغيير شكل القطع أو التحف المقلدة بغرض خداع الآخرين وايهامهم بأثرية هذه القطع. ومن هنا ينبغي التأكد من اللون الأصلي للقطعة، وهل هو لون متعمق ومتأصل أم سطحي، كما يمكن خدش اللون أو أخذ عينة منه، واختبار المخدش الناتج، ومعرفة إن كان هو اللون الأصلي أم لا. وكذلك تفحص الوزن، خاصة في حالة المعادن والأحجار؛ فبعض المعادن أو الأحجار تتميز بوزن مميز. فمثلاً معدن الرصاص، وحجر الجرانيت والبازلت، وغيرها من الأحجار، تتميز بوزنها العالي، بينما الأحجار الحديثة أو المصنعة عادة ما تكون أخف وزنًا من الأحجار القديمة. وبخلاف اللون والوزن، هناك الملمس، والصلادة، والمخدش، و القابلية للاحتراق، وجميعها يمكن من خلالها التأكد من أصالة الأثر أو العمل الفني. ويمكن الاستعانة بعدسة مكبرة أو مجهر مكبر، أو إضاءة مباشرة في المعاينة البصرية والفحص البصري.
ويلي هذه المعاينة وهذا الفحص دراسة السمات الفنية، والنقوش والكتابات إن وُجدت. والمعلوم أن كل أثر أو عمل فني ينتمي إلى مدرسة فنية معينة، لها سماتها المميزة، سواء في ملامح الوجوه أو في الزخارف والرسومات، ومعرفة مثل هذه الميزات، سوف تمكن من من التمييز بين ما هو أثري وما هو غير أثري. كما أن دراسة الكتابات أو النقوش (النصوص) – إن وجدت – سوف تساعد إلى حد كبير في تمييز الأثر الأصلي من المزيف؛ ذلك أن الاختلافات سوف تكون واضحة في أسلوب الكتابة وحرفية النقوش ودقتها، وقد توجد بعض الأخطاء التي يسهل ملاحظتها وتمييزها.
ويأتي بعد هذه المراحل مرحلة الفحص العلمي باستخدام أجهزة فيزيائية، لها القدرة على فحص السطح الخارجي للأثر أو العمل الفني، والوقوف على حالته، ومظهره، ومدى تقادمه، وعلامات هذا التقادم، ومنها المجهر البصري والمجهر الإلكتروني، وكذلك أجهزة التصوير الإشعاعي الراديوجرافي، والتصوير بالأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية، والعديد من أجهزة الفحص الداخلي الأخرى؛ للوقوف على طبيعة مادة الأثر أو العمل الفني، ومدى ما فيها من تغيرات في تركيبها الدقيق.
ثم التحليل العلمي للمادة الأثرية للتعرف على تركيبها الدقيق، باستخدام أجهزة التحليل الكيفي، أو الكمي، أو هما معًا، على أن تكون من نوعية غير متلفة أو غير ضارة للأثر أو العمل الفني. ويمكن من نتائجها الاستدلال على معلومات تغيرات المادة وتفاعلات التقادم.
ومن هذه الأجهزة: أجهزة الليزر، وتفلور الأشعة السينية، وحيود الأشعة السينية، والنيترونات النشطة، وغيرها من الأجهزة التي قد تحتاج إلى عينات صغيرة، أو لا تحتاج إلى عينات.
وأخيرًا يأتي التأريخ كمرحلة أخيرة للتأكد من أصالة الأثر أو العمل الفني. ومن الطرق التي تستخدم للتأريخ الكربون 14 الذي يستخدم لتأريخ المواد العضوية النباتية والحيوانية، ويستخدم في التأريخ للعناصر حتى 30 ألف سنة مضت. وطريقة الوميض الحراري المستخدم في تأريخ الفخار، بحساب كم الإشعاع الذي استمده الفخار من تاريخ دفنه؛ لأن طريقة تسخين الفخار عند صناعته لدرجة 1200 درجة مئوية تفقده كل الإشعاع الذي استمده عبر السنين ليعود لنقطة الصفر؛ لذا فإن التأريخ يبدأ من بداية دفنه في الأرض حتى كشفه في أعمال التنقيب، وغيرها من الطرق المباشرة في التأريخ أو المساعدة له، وإن كانت جميعها تقديرية وتقريبية وغير قاطعة.
ومن خلال العرض السابق يتضح أن عملية الكشف عن تزييف الآثار والأعمال الفنية ليست بالأمر السهل، وهي في حاجة إلى دراسات، ومنهج تعليمي، ومشاركات جهات أكاديمية عديدة؛ في إجراءات وأساليب الكشف قد تختلف من مادة لأخرى؛ فكشف تزوير الوثائق والمخطوطات والعملات يختلف عن كشف تزوير وتزييف اللوحات الزيتية، غير كشف تزوير التماثيل المعدنية والحجرية، والآثار الفخارية وغيرها من المواد الأثرية. ويفتقر عالمنا العربي إلى متخصصين في هذا المجال. ويذكر أنه من التجارب الرائدة في هذا المجال في عالمنا العربي ما قام به الأستاذ الدكتور مصطفى عطية أستاذ ترميم اللوحات الزيتية بكلية الآثار جامعة القاهرة من إنشاء معمل «تأريخ وكشف تزوير اللوحات الزيتية وترميمها» ضمن أحد المشروعات البحثية لجامعة القاهرة، وكان قد حصل على براءة اختراع لكشف تزوير اللوحات الزيتية من جامعة كوبر نيكوس في بولندا أثناء فترة دراسته الدكتوراه فيها. مثل هذه التجربة في حاجة إلى التعميم على مستوى الكليات والأقسام المعنية بالآثار والتراث بالتعاون مع الجهات البحثية المختلفة ذات العلاقة؛ وذلك لمواجهة هذه الجريمة في حق تاريخنا وآثارنا وحضارتنا….