التجديد الديني والحوار مع الآخر.. أسسه ومقاصده وآدابه
✍️كتبت كريمة عبد الوهاب
لكي نعلم بوضوحٍ تعريف تجديد الخطاب الديني وما يعنيه المصطلح ، علينا أن نفهم معنى كلّ كلمةٍ فيه، ثمَّ ندرك بعد ذلك ما يرتبط به من تبعاتٍ وارتباطات، ولقد أغنانا الدكتور سيف الدين عبد الفتَّاح عن الحديث حول معنى التجديد لغةً وفي الفكر الإسلاميّ، وذلك عند حديثه عن مفهوم التجديد وهذه الفقرة مقتبسة من مقاله : “التجديد في اللغة العربيَّة من أصل الفعل تجدد أي صار جديدًا، وكذلك أجدَّه واستجدَّه، وكذلك سُمِّي كلُّ شيءٍ لم تأتِ عليه الأيَّام جديدًا، ومن خلال هذه المعاني اللغويَّة يمكن القول أن التجديد في الأصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصوُّرًا تجتمع فيه ثلاثة معانٍ متَّصلة:
أ- أن الشيء المجدد قد كان في بداية الأمر موجودًا وقائمًا وكان للناس به عهد.
ب- أنَّ هذا الشيء أتت عليه الأيَّام فأصابه البِلَى وصار قديمًا.
ج- أنَّ هذا الشيء قد عاد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق.
ولقد استُخدِمَتْ كلمة جديد وليس لفظ التجديد في القرآن الكريم بمعنى البعث والإحياء والإعادة وغالبًا للخلق وكذلك أشارت السنَّة النبويَّة لمفهوم التجديد من خلال المعاني السابقة المتَّصلة الخَلْق والضعف أو الموت والإعادة والإحياء، ويُعتبَر حديث التجديد: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله تعالى يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنةٍ من يجدِّد لها دينها”.
كما تظهر مفاهيم مثل الإصلاح والإحياء، وهي نابعةٌ من الرؤية الإسلاميَّة لعمليَّة التجديد، حيث أن التجديد هو إحياءٌ لنموذجٍ حضاريٍّ وُجِد من قبل، ولم تحدث تجاهه عمليَّات التجاوز والخلاص، ويتَّضح ممَّا سبق مدى الارتباط بين “مفهوم التجديد” فكرًا وممارسةً، وبين الخبرة التاريخيَّة والمرجعيَّة الكبرى النهائيَّة للمجتمع”، هذا عن تجديد الدين، وتجديد الفكر الإسلاميّ، فماذا عن تجديد الخطاب الإسلاميّ ؟؟ اتَّخذ الحديث حول تجديد الخطاب الدينيّ “الإسلاميّ” ثلاثة مناحٍ:
المنحى الأوَّل: رفض فكرة تجديد الخطاب من أساسها، بدعوى أنَّ الدين قد نزل واكتمل وتمّ، وما تجديد الخطاب إلا دعوى خبيثةً للقضاء على الإسلام.
المنحى الثاني: التوسع في الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، وذلك ليصل إلى تجديد الدين كله.
المنحى الثالث: التوسُّط، فمَنَعَ هذا الفريق التجديد في النصوص، وأجازوا التجديد في فهمنا للنصوص، مع بقاء حقِّ الاحترام كاملاً لاجتهادات العلماء السابقين.
ويعتبر كلا المنحيين الأوَّل والثاني قد تطرَّفا في الفهم: فالأوَّل مَنَعَ، بناءً على فهمه أنَّ التجديد يعني تجديد القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة، وهذا فهمٌ مغلوطٌ مردود، فالتجديد المعنيُّ هو تجديد الاجتهاد لا تجديد النصّ، وبالتالي فليس هناك من يؤخَذ كلُّ كلامه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، والثاني تجاوز كلَّ حدود سواءً بحسن نيَّةٍ أو سوء نيَّة فدعا إلى هدم الدين كلِّه تحت مسمَّى التجديد، فمعنى تجديد النصوص، أي هدْم القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة، وإنشاء شريعةٍ جديدة، وهذا ما لا يقبله مسلم.
أمَّا التوسُّط، وهو الاتِّفاق على الأصول، والتجديد في الاجتهادات، فهو أنسب المواقف، مع التأكيد على أنَّ التجديد في الخطاب الديني يُقصَد به التجديد في اجتهاداتنا البشريَّة، لا في نصوص الدين، أي في اجتهادات وأفهام رجال العلم والفِقْه والفكر، لا في نصوص القرآن والسنَّة، وهذا هو التجديد المقبول، والتجديد قد يعني تجديدًا في المضمون، وفي الشكل، أي في مضمون الخطاب وفي شكل عرضه، لا في الشكل فقط. كما أنَّ التجديد مطلوبٌ؛ لأنَّنا مطالبون أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بأن نسعى بوعيٍ لأن نعمِّر أرضنا ومجتمعنا الذي نصنعه نحن، ونعيشه، ونحدِّد وضعه ومستقبله، بأنشطتنا وعلاقاتنا وسلوكيَّاتنا اليوميَّة في كلِّ مجالٍ من مجالات النشاط الإنسانيّ، خاصَّةً وأنَّنا نرى واقعنا، ونفهم ما حولنا، وندرك كم أصابنا من خسائر من نتاج سلبيَّة خطابنا أو تقليديَّته.
ومعنى كلمة الخِطاب هو مُجمَل ما يصلنا من أفكارٍ أو تصوُّراتٍ بكلِّ أشكال التعبير اللغويّ، مسموعًا أو مكتوبًا، وبكلِّ وسائل التوصيل التقليديَّة أو المستحدثة,، سواءً كنَّا نتلقَّاها جماعةً أو فُرادَى وهو بذلك ليس كما يتخيَّل البعض من اقتصار معنى الخطاب على مجرَّد الخطابة التي نتلقَّاها في المساجد في صورة خطبةٍ، أو موعظةٍ، أو درسٍ، أو ما شابه ذلك، والمقصود بالدين هو عبارة عن مجموعةٌ من المفاهيم والمعايير والاتِّجاهات التي يعتنقها الفرد أو الجماعة، غير أنَّ المفهوم المتعارف المتداول هذه الأيَّام والمرتبط بتجديد الخطاب يقصر معنى الدين هنا على أنَّه “الإسلام”، وبعد فهم الكلمات الثلاث: “تجديد”، و”خطاب”، و”دين”، علينا أن ننظر وِفقَها في معنى: “تجديد الخطاب الدينيّ”: تجديد الخطاب الدينيِّ انبثق من خلال مفهومَيّ: “تجديد الدين”، و”تجديد الفكر الإسلاميّ”.
حيث يعتبر تجديد الدين هو تجديد وإحياء وإصلاح لعلاقة المسلمين بالدين، والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه؛ لتحقيق العمارة الحضارية وتجديد حال المسلمين، ولا يعني إطلاقًا تبديلاً في الدين أو الشرع ذاته وهذا اللون من التجديد مرفوض بالطبع شكلاً ومضمونًا، ولكنه لا يعني أبدًا إغلاق الأبواب، بل إغلاق العقول أيضًا حيث يقول الدكتور القرضاوي: “التجديد الحقيقيُّ مشروعٌ، بل مطلوبٌ في كلِّ شيء: في الماديات والمعنويات، في الدنيا والدين، حتى إن الإيمان يحتاج إلى تجديد.
وبالنسبة إلى تجديد الفكر الإسلامي فيقول فيه الدكتور سيف عبد الفتَّاح أنه يعني العودة إلى الأصول وإحياءها في حياة الإنسان المسلم؛ بما يُمكِّن من إحياء ما اندرس، وتقويم ما انحرف، ومواجهة الحوادث والوقائع المتجددة، من خلال فهمها وإعادة قراءتها، تمثُّلاً للأمر الإلهيِّ المستمرِّ بالقراءة: “اقْرَأ بِاسْم رَبّكَ الَّذي خَلَقَ”، وفي الواقع، يرتبط مفهوم التجديد بشبكة من المفاهيم النظريَّة المتعلِّقة بالتأصيل النظريِّ للمفهوم، والمفاهيم الحركيَّة المتعلِّقة بالممارسة الفعليَّة لعمليَّة التجديد.
فعلى سبيل المثال يتشابك مفهوم التجديد مع مفهومَي الأصالة والتراث؛ حيث يُقصَد بالأصالة تأكيد الهويَّة والوعي بالتراث دون تقليد كبير، وتلك المقاصد جزء من غايات التجديد، كما يشتبك التجديد مع مفهوم التغريب، والذي يعبر عن عملية النقل الفكريّ من الغرب، وهو ما قد يحدث تحت دعوى التجديد، وعلى صعيد المفاهيم الحركيَّة، تُطرَح مفاهيم مثل “التقدُّم” و”التحديث” و”التطوُّر” و”التقنية” و”النهضة” لتعبِّر عن رؤيةٍ غربيَّةٍ لعمليَّة التجديد، نابعةٍ من الخبرات التاريخيَّة الغربيَّة، ومستهدفةٍ لربط عمليَّة التجديد في كلِّ الحضارات بالحضارة الغربيَّة، باعتبارها قمَّة التقدُّم، وهدفاً للدول الساعية نحو التنمية.
اقرا ايضا:-
الحوار بين الاديان… ضرورة لتعزيز السلام والتفاهم