وثاق الوئام

16

بقلم: د. باسم موسى

 

انتفضت من نومي في الصباح فزِعا .. ضجيج عالٍ في شارعنا يقضي على كل سكينة. هرعت مسرعا ونظرت من الشرفة، فإذا أحد جيراننا في الشارع في حالة هياج شديد، يكيل أقذع الألفاظ لمن وضع القمامة أمام منزله، ويتوعده إن هو علم هويته، فلسوف يفعل به كذا وكذا.

وانفتحت جراء ذلك عدة شرفات ونوافذ في أنحاء الشارع كليا أو جزئيا، ليستكشف الناظر عبرها الموقف ويتابعه خلسة في ترقب حذر، ثم أغلقت النوافذ وعاد الهدوء تدريجيا بعد توقف جارنا عن سب وتهديد الفاعل، ومن ثَمَّ انصرافه.

وثاق الوئام
وثاق الوئام

 

وللحق فلقد فعلت – فقط – مثل جيراني، فأنا وإن كنت أعرف ملامح الرجل، إلّا أننا لم نتعامل سويا من قبل، كما أن كمية ونوعية الألفاظ التي أطلقها، وطريقة إلقائه لها؛ تنم عن شدة هياج شخص يحيا خارج حدود الأخلاق أو الحكمة، ولست أضمن الاحتفاظ بكرامتي وهيبتي إن حاولت تهدئة أو جبر خاطر شخص بتلك الطبيعة الأخلاقية الهائجة.

المهم في ذلك؛ أن المشهد قد استرعاني، وتأثرت به بشدة، وحزنت على القيم والمفقودات الدينية والأخلاقية والحضارية التي تخلى عنها الكثير منا، فها هي روابط الجيرة قد تفككت، فضاعت بتفككها حقوق الجيران وانتهكت، وأساليب معاتبتهم وتقويمهم قد انحرفت عن المسار المتوقع، حتى إن الأكثرية – وأنا منهم – يخشى كل منهم أن يهدئ الغاضب أو يعاتب المتسبب، وكلاهما لديه جوانب من خطأ.

ورحت أفكر بإمعان حزين محللا الموقف، بغية الوقوف على الأسباب التي أردت بنا في ذلك الحال؛ علَّني أجد مفاتيح ذلك الغموض التي عن طريقها قد ينصلح الحال، فتذكرت – أثناء رحلة تفكيري – سنواتي الأولى على وجه البسيطة حين كانت أبواب الشقق تفتح وتقفل عشرات المرات كل يوم؛ فنحن وأولاد جيراننا نتنقل بحرية بين الشقق، فكلها منازلنا نأكل فيها ونلعب وننام فإننا وجيراننا كالجسد الواحدا.

تذكرت حين كانت بعض جاراتنا لا تتمتع وأسرتها بطعام إلا بعد أن ترسل أولادها إلينا بأطباق تحوي بعضا منه، وكنت بعدها أحمل إليهم رد أسرتنا معيدا الأطباق إليهن مليئة بأصناف أخرى، وتذكرت تجمع أمهات العمارة – وربما من خارجها – على السطح في يوم (الخبيز) الممتعة طقوسه، ومظاهر البهجة والتعاون والوداد فيه.

وتذكرت توحد قلوب رجال ونساء شارعنا كله عند كل واقعة سرور أو حزن وكيف أن خالي أجل حفل زفافه أربعين يوما، لأن أحد جيراننا المسيحيين في عمارة أخرى بالشارع توفاه الله قبيل موعد الزفاف، وكيف أنه أصر على ذلك رغم إلحاح أهل المتوفي على إقامة الزفاف في موعده ووعدهم بالحضور.

تذكرت أيضًا تبادل أفراد وأسر شارعنا للزيارات على فترات غير بعيدة وقد تكون طقسا يوميا، وكيف كان هذا الوداد يذلل حل مشكلات الشارع ببساطة ويسر، فالشاكي والمشكو في حقه لهم نفس المحبة والتقدير عند الجميع، ومن يحكم بخطئه يعتذر ويقبل الآخر منه، فتستيقظ بينهما المودة – التي لم تزُل من قلبيهما أثناء الخلاف – قوية كعهدها.

تذكرت حسن السلوك، وحرص كل جار على جاره ألّا يتأذى منه لأي سبب كان، كالقمامة أو الضوضاء أو سماع كلمات تسوؤه أو ألفاظ تخدش حياء أهل بيته، فقد كانت الأخلاق الحميدة قانونا سائدا يلتزم به الجميع طواعية، فلا تحل المشكلات أبدا بسباب أو عراك أو ادِّعاء القوة أو استعراضها أو الاستقواء بالمعارف من ذوي القوة أو السلطان؛ ولكن باللين والمودة والإيثار.

وتذكرت حين كان كل شخص حريصا على جمال سيرته – خصوصا بين جيرانه -, ويجذر من تلوثها بسوء سلوكه، فهو يحترم ذاته ولا يضطر غيرَه إلى الرد على تصرفاته بشكل لا يليق فالكل في عين الكل ذو خلق كريم فله تقدير ومودة.

تذكرت “صباح الخير” تعطر الأفواه وهي تعزف على ألسنة الجيران المتقابلين صباحا أنغام مودة تنبعث معها ابتسامات تؤكد المحبة والوداد،مرات في كل يوم تتكرر الصورة من كل مار على كل مار، ومن شرفات المنازل على من حضرته من الجيران.

تذكرت أشياء وأشياء أثار فقدانها في نفسي ألام شجون وتوق إلى حياة الماضي المزين بالجمال، وتبينت حين قارنت هذا الماضي بالحاضر؛ إلى أي مدى سرت التصدعات في بنيان تقاليد مجتمعاتنا الصغيرة، مجتمعات كل شارع في بلادنا، والتي هي لبنات مجتمعنا الكبير، مجتمع مصرنا الحبيبة. التقاليد التي أنجبت عادات لم يتميز بمثل جمالها شعب كشعبنا العريق.

أثناء رحلتي في استكشف الأسباب، وجدتنا نسينا أمر الله عز وجل في كتابه إذ قال “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا” صدق الله العظيم. فلتتأمل عزيزي القارئ؛ كيف أوصانا الله على الجار؟، لقد أوصب به معطوفا على عبادته وتوحيده والنهي عن الشرك به، والإحسان للوالدين والأقارب. هل يدلك ذلك على شيء؟
كما وجدتنا قد نسينا حديث رسول الله ﷺ ” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” وحين تتأمل قوله “ما زال” فيمكنك تخيل استمرار تكرار الوصية، والتي بالطبع نزل بها جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل، وبديهي أن هذا التكرار يدل على كونها مقوما أساسيا من مقومات استقرار المجتمع ودعم بنائه وجوانب أخرى أتمنى أن تطلق عنان عقلك في صيد بعضها.

وها هو أيضا رسولنا الكريم ﷺ يحذرنا من أدنى إيداء للجيران فيقو “واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. إن الحديث رسالة من الله إلينا نقلها الذي لا ينطق عن الهوى ﷺ بأن مجرد عدم طمأنينة الجار من ناحية جاره ينافي الإيمان.فمن منا يرضى أن يشمله ذلك التحذير ويكسر بيديه في بنيان إيمانه؟!

إن هذه الآية والأحاديث ومثيلاتها ليست فقط للقراءة بهدف التقرب لله وجنى البركة والحسنات؛ ولكنها قوانين جعلها الله ورسوله ركائز للوئام والسلام الاجتماعي إن نحن التزمنا بها، ومنابع لسيل غزير من الأفكار البانية للمجتمعات القوية القويمة، فهي تحض على ترابط لبنات المجتمعات، وتعزز أنوية التعاون والتآزر وبث روح القدوة ومقاومة الانحرافات المجتمعية، وتقويمها في إطار حق الجار من النصح والإرشاد، وغيرها من المعاني الكثيرة فانطلق واستكشف.

لقد وجدت أثناء بحثي أن الانغماس في الشؤون الشخصية والأسرية, أصبح – للاضطرار – زائدا عن الحد؛ دافعا للانعزال والتفرق الاجتماعي؛ فضمرت أواصر المودة والمحبة بين الجيران؛ وتحولت الجيرة – بالمصطلح الدارج – إلى مظاهر سطحية من باب الذوق أو تجنب اللوم على التقصير، مظاهر لا تتعدى الألسنة والشفاة وقليلا من الابتسام؛ فتحدد هيكلا يحيط بأطلال مودة هشة، تتحطم عند أول اختلاف في وجهات النظر أو تعارض في المصالح.

ومن العجيب بصفة عامة، أننا نعالج المشكلة بالانغماس فيها, ونطفئ النار بتغطيتها بالحطب. فها نحن نبحث عن العلاقات الجيدة القوية ثم نعكر صفوها بسلوكياتنا التي قد تتمحور حول الأنانية الاجتماعية سواء في الحقوق المادية أو المعنوية للغير ومنهم الجيران. فمن أين إذن سينبعث الهدوء والسكينة في مجتمعات شووارعنا و نحن الذين نزيلها بتوجهاتنا وأفعالنا. ونهدم أواصر الجيرة بمحض تصرفاتناا.

إن هذه رسالة يجب على من يقرأها أن يؤمن بها ويزرعها في قلبه وقلوب غيره بكلماته وأفعاله. إنها واجبة الإيمان ليست لأنني أعتبر كلامي لا مراء فيه؛ ولكن لأنها رسالة الله في كتابه الحكيم، ونقلها لنا سيد البشر مشروحة مفصلة في أحاديثه الشريفة كما رأينا سابقا وأضف إلى ذلك منطقيتها وتوافقها مع فطرة البحث عن الاستقرار والسكينة الاجتماعية وحب الفرد أن يكون ذو تقدير واحترام لدى الجميع وخصوصا جيرانه.

وثاق الوئام
وثاق الوئام

إننا عزيزي القارئ يتوجب على كل منا الوعي بأهمية حق الجار، وما سنجنيه نحن وأولادنا وأهالي بيوتنا من ثمار انتشار إيفاء الجار حقه. والوعي بما سيحققه. إننا؛ أنا وأنت عزيزي القارئ مدرسة، إن أحسننا اختيار مناهجها من الإرشاد بحقوق الجيران وبيان أهميتها للفرد والمجتمع وأنها أوامر الله تعالى؛ وإن أحسننا عرض هذه المناهج بالقدوة واللياقة والصبر وبيان جمال الماضي الودود؛ ننجو وينجو معنا المحيطون وإن تراخينا عن واجبنا فلا حق لنا أن نشكو أو نتذمر من النتائج.

هيا بنا عزيزي القارئ لنخفف عن أنفسنا الأحمال. ولنأخذ بأيدي بعضنا إلى ثكنات الأخلاق مستعينين بالقول الطيب والمعاملة اللينة، ولنتحدث عن ذلك في كل ميدان. علنا نعود أو حتى نقترب من ماضي تماسك نسيج الجيران الجميل. هيا لنعيد ربط التقاليد والأخلاق الماضية بسلوكنا مع الجيران بوثاق قوي كي يعود الترابط والوئام والسكينة في شوارعنا.

هلم عزيزي القارئ وانهض معي، .. لنشد سويًا … وثاق الوئام.

رابط مختصر: https://roayatwatneg.com/lh8w
قد يعجبك ايضآ