أسطورة سرير بروكرست

46

كتبت: آيات مصطفى

 

هذه الأسطورة اليونانية تحكي عن شخصية أسطورية اسمها بروكرست، وهو حداد وقاطع طريق ، وكان يستضيف الناس في بيته ويدعوهم إلى النوم في سريره الحديدي الذي صنعه على يديه و بمقاسات معينه ، ولكن بروكرست كان لديه هوس بأن يكون طول الضيف متساويًا مع طول السرير، فإذا كان الضيف أطول من السرير، قطع أرجله، وإذا كان أقصر من السرير، شد جسمه بالقوة حتى يتناسب مع السرير، ولم ينجو من هذا المصير إلا من كان طوله مطابقًا مع طول السرير، ويقال أنه كان لديه سريرين بمقاسات مختلفه بحيث يرى الضيف وبحسبه بسيطة بالنظر يقوم بإدخال الضيف إلى السرير الذي لا يتناسب مع مقاسه في الطول  .

أسطورة سرير بروكرست
أسطورة سرير بروكرست

 

وهذه الأسطورة تعبر عن مفهوم البروكرستية، وهو فرض الرأي بالقوة على الآخرين عن طريق تشويه الحقائق أو تغيير الأفكار بالقوة لتتناسب مع معايير مسبقة وضعت مسبقًا من قبل شخص ما ، وهذا ما يقع فيه بعض الناس في النقاشات أو الحوارات حيث يرفضون الاعتراف بوجهات نظر مختلفة عنهم ويحاولون إقناع الآخرين بأنهم على خطأ وأنهم يجب أن يتبعوا ما يقولونه وهذا يؤدي إلى الجدل والتعصب والتطرف والتناقض.

لكن الحقيقة ليست ثابتة أو محددة بمقياس واحد، بل هي متعددة الأوجه والمنظورات، وتعتمد على السياق والظروف والمعلومات المتاحة ولذلك يجب أن نكون متسامحين و منفتحين على الاختلاف والتنوع، وأن نحترم آراء الآخرين ونستمع إليهم بتمعن وتفهم، وأن نقدم لهم الحجج والبراهين بدل العنف والإكراه وهذا هو الطريق إلى الحوار البناء والتفاهم السليم والتعايش السلمي.

ففرض الرأي بالقوة على الآخرين هو موضوع مهم وحساس في الحياة الاجتماعية والسياسية فالرأي هو تعبير عن وجهة نظر شخصية أو جماعية تستند إلى معلومات أو معارف أو معتقدات معينة، والحوار هو أداة لتبادل الآراء والأفكار بين الأطراف المختلفة بطريقة محترمة و منطقية مقنعة، ولكن عندما يحاول أحد الأطراف فرض رأيه على الآخرين بالقوة أو العنف أو التهديد أو الإكراه، فإنه يخرق حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم، ويسبب الصراع والانقسام والتطرف والإرهاب.

 

كما أن الإسلام لا يسمح بفرض الرأي أو الدين على الناس قسراً، وأن مهمة الرسل هي البلاغ والدعوة والتذكير، وأن حساب الخلق متروك إلى الخالق جل وتعالى يوم القيامة.
كما أن الله منحنا حق اختيار الدين والمعتقد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعدم إكراه الناس على الدخول في الدين، ويجب التذكر دائماً أن للآخرين عقولاً وإرادة حرة وشخصية مستقلة وحدوداً شاسعة من الحرية.
ولا يجب ممارسة الفرض والوصاية والهيمنة على الناس باسم الرب وباسم الدين، ويجب الدعوة إلى احترام الحرية والاختيار والتسامح.

كما ينصح بتجنب محاولة فرض الرأي بالقوة أو التشبث به بالرغم من معارضة الآخرين، والابتعاد عن العناد، مع محاولة إقناع الطرف الآخر بالرأي بطريقة دبلوماسية ولبقة، ويجب الاستماع بتركيز والتفهم بتعاطف والرد بحكمة والنقد بأدب.

ويذكر أن الرأي هو حق من حقوق الإنسان و أهمية التعبير عن الرأي الشخصي والدفاع عنه بشجاعة وثقة وعدم السماح لغيرنا بفرض آرائهم علينا أو إجبارنا على ما لا نرغب، وأنه يجب على كل فرد أن يتعلم كيف يعبّر عن رأيه قبولاً أو رفضاً بحرية، وأن يعلّم الوالدان أبنائهم كيف يحترمون آراء الآخرين .

فالحوار والتفاهم هما السبيل الأمثل للتعايش السلمي والتعاون المثمر بين الناس، بينما العنف والتسلط هما مصدر الفتنة والفرقة والظلم.

و يجب أن نفرق بين الرأي والحقيقة

الرأي هو

وجهة نظر شخصية قد تكون صحيحة أو خاطئة، وقد تتغير مع الزمن والظروف والمعلومات.

أما الحقيقة فهي

ما يثبته الدليل والبرهان، ولا يتغير بتغير الأشخاص أو الأحوال.

لذلك، يجب أن نتواضع في آرائنا ونتقبل النقد والمراجعة، ونحترم آراء الآخرين ونسمعهم بصدر رحب، ونتبادل الحجج والبراهين بأسلوب عقلاني ومنطقي، ونتجنب العصبية والتعصب والتكبر والتجريح.

 

كما يجب أن نعرف أن فرض الرأي بالقوة على الآخرين ليس من الدين ولا من العقل فالدين الإسلامي هو دين الرحمة والسلام والعدل والحكمة، وليس دين الإجبار والإكراه والظلم والجهل. فالله تعالى منح الناس حرية الاختيار في معتقداتهم وأعمالهم، ولم يجعل لأحد حق الوصاية أو السيطرة على ضمائرهم أو عقولهم.

والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان أشرف الخلق وأفضل الرسل، ولكنه لم يفرض رسالته على أحد بالقوة، بل كان يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقال الله تعالى :

“ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
” [النحل: 125].

وقال تعالى:

“فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ”
[الغاشية: 21-22].

وقال تعالى:

“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”
[يونس: 99].

والعقل السليم يقول أن الحوار والنقاش هما أفضل وسيلة للتوصل إلى الحقيقة والاتفاق على المصالح، وأن العنف والتسلط هما مصدر الفشل والخسارة والندم.

أسطورة سرير بروكرست
أسطورة سرير بروكرست

و يجب أن ندرك أن فرض الرأي بالقوة على الآخرين له عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع فمن عواقبه على الفرد:

أن يفقد الفرد حريته وكرامته وثقته بنفسه، وأن يصبح مجرد تابع أو متبع لغيره، وأن يعيش الفرد في حالة من الخوف والقلق والاكتئاب والضيق.

ومن عواقبه على المجتمع:

أن يفقد المجتمع التنوع والإبداع والتطور، وأن يصبح مجتمعاً متخلفاً ومتنازعاً ومتشققاً، وأن يتعرض للظلم والاستبداد والاستغلال من قبل الحاكمين أو الجماعات المتطرفة.

 

فيجب أن نتعلم كيف نتعامل مع الأشخاص الذين يحاولون فرض آرائهم علينا بالقوة، فمن أفضل الطرق أن نحترم آرائهم ونسمعهم بانتباه، وأن نعبر عن رأينا بأدب ووضوح، وأن نبين أسبابنا و دوافعنا بمنطق وحجة، وأن نطلب منهم الاعتبار والتفهم، وأن نحاول إيجاد حلول وسطية أو بديلة ترضي الجميع، وأن نتجنب الخلافات والمشاحنات والمشادات التي لا تفيد، وأن نلجأ إلى الاستشارة والوساطة والتحكيم في حالة إذا احتد النقاش .

أسطورة سرير بروكرست
أسطورة سرير بروكرست

 

و يجب أن نسعى إلى تربية أنفسنا وأبنائنا ومجتمعنا على فن الحوار والتفاهم والتسامح والتعايش، وأن ننشر ثقافة السلام والحب والتعاون والتكافل، وأن نقاوم ثقافة العنف والكراهية والتفرق والتخلف، وأن نتذكر قول الله تعالى:

“وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”
[آل عمران: 102-103]

 

فالحياة لا تحتاج أن تعيشها كبروكرست كن متفهمًا واسع الصدر وتقبل دائمًا وجود الرأي الأخر تهنأ بحياة هادئة بعيدة عن المشاحنات، وضع دائمًأ في اعتبارك أن بروكرست حكم عليه بالموت كما كان يصنع بضيوفه ولكن مقطوع الرأس وعلى نفس سريره الذي كان يقطع ضحاياه عليه فالجزاء دائمًأ يكون من صنف العمل .

رابط مختصر: https://roayatwatneg.com/jhbe
قد يعجبك ايضآ