شيلّاه يا ذرّة
✍د. باسم موسى
أهلا بك عزيزي القارئ ولقاء جديد وفكرة جديدة (مباركة) أتحاور فيها مع عقلك الواعي وفكرك المستنير، وأبدأ بتعريج سريع عن مصدر فخرنا الراحل د. أحمد زويل الذي هُيأت له الظروف لكي يجسد ذكاءه المصري العربي النادر ويحوله إلى واقع ملموس في إنجازات كثيرة نافعة للبشرية.
ولن أقصر تعريجي على زويل وحده بل وزملائه في الفخر العلمي المصري جميعًا، فقد حفروا – وما زالوا- على صخور التاريخ تاريخ براقًا لن تمحيه عوامل الزمن ببساطة؛ من سجلات العقل والفكر والعلم والوعي.
لقد ختمت الفقرة السابقة عزيزي القارئ بكلمات.. العقل.. الفكر.. العلم.. الوعي. إنها مقصودة، وكذلك ترتيب الكلمات مقصودا. ولعلك لاحظت أن البداية مع العقل؛ لأنه منبع الملاحظة فالتفكير ثم الإدراك. ولاشك أن زويلا وشركاءه في قمة الفخر كانوا يتمتعون بنعمة استخدام هذه الموارد الطبيعية التي لا تغيب عن بشر وإن تفاوتت المقادير.
لو نظرنا عزيزي لأي طفل حولنا لوجدناه قد فطن بعقله إلى حب المحيطين وإلى أن التمليس على عواطفهم بالتدلل غالبًا ما يوصله إلى أهدافه، فراح يفكر (بمحدودية ولكنه يفكر) في طريقة الحصول على لعبة أو النجاة من عقوبة، وقد ترسخت المعلومات في عقله بفعل الخبرة في الممارسة وصار يستخدم علمه بالمحيطين لمصلحته، وها هو وعيه يتمادى فأصبح يعرف من أي شخص من المحيطين يطلب ذلك الشيء المعين.
إن ذلك العقل الصغير فكر وتعلم ووعى، ولو جاءه صديقه مخبرًا إياه أن والده سيعطيه جائزة الذكاء لو استطاع اليوم أن يخدع المدرسة ويهرب؛ لاتمهمه بالكذب والجنون بناء على عقله وتفكيره وعلمه بأفكار والده وبالواقع ووعيه بما هو منطقي وغير منطقي.
وفي عودة إلى راية العلْم د. زويل؛ فتخيل لو كان حاضرًا بيننا اليوم، وجاءه خبر أن رضيعة جاره ذات الشهور المعدودة على الكف ستتزوج يوم الخميس القادم فماذا كان سيفعل حينها؟ وهل كان ليصدّق؟! بل تخيل أنهم أخبروه بعد أيام أن يبارك لجاره فقد أكرمه الله (من وسع) فحملت رضيعته وجنينها سيولد بعد بضعة أيام، فهل كان سيصمت؟!
هل ضحكت عزيزي القارئ ساخرًا من كلامي؟ لا بأس، فإنك إن كنت ضحكت فأنت بلا شك قد ضحكت أيضًا عندما أخبروك عن عجول بقريّة تحمل أجنة ذات عمر أكبر منها هي نفسها، وإني أغبطك على ضحكك هذا، فهو بلاشك نابع من عقل وفكر ووعي، وطبعًا علم تعلمته في مؤسسات دراسية ومنابر علمية وخبرة وممارسة واقعية.
لقد حزنت كثيرًا عندما سمعت – ونحن في عصر الذرة، ونانو زويل وبلده- عن أضواء تسلط على عجلة صغيرة يدّعى أنها تحمل بين أحشائها جنينًا، وأنها (مبروكة) أي معجزة بدارجتنا المصرية، حزنت فليست هذه هي البقعة المناسبة لك يا مسلط الضوء الذي تعيش معنا في عصر العلوم المذللة بالإنترنت الملاصق لك في كل لحظة في جوال وحاسب. حزنت على عقلك وسلوكك وتعاملك مع الترهات.
والعجيب يا قارئي أن بعض المنابر الإعلامية جلبت أكوامًا من الصنفرة الاجتماعية والدينية والعقلية المزيفة، وصارت تلمع هذا الزيف وتحاول مستميتة أن تحشره في العقول، فما السبب أو الأسباب؟ هل لانخداع هذه المنابر بالوهم أم الرغبة في شد أكبر قدر من الجماهير والمتابعين أم أن هناك مآرب أخرى خفية؟ إن النية في القلوب ولا يعلمها إلا الله.
عمومًا فإن كل عاقل رشيد لابد أنه نبذ فكرة حمل رضيعة جار د. زويل المفترضة، لأن قواعد الأجساد وقوانين التزاوج والحمل غير منطبقة عليها، وكذلك العجلات تنطبق عليها هذه القوانين، فلا حمل يحدث في مرحلة الجنينية، ولا حمل يحدث إلا بتزاوج أو تلقيح صناعي، ولا حمل يظل مستترًا ثم يكشف عن أموره فجأة وهو على وشك النزول، ولا توجد ضروع تكاد تكون بحجم ربع حيوان أو أكثر.
لقد نهض العلم متمثلًا في علماء الطب البيطري بجامعة دمنهور؛ نهض متبعًا أسلوبًا علميًا لكي يكشف للناس الحقائق وينقض الخرافات، فقد انتقلت منهم طائفة لدراسة الحالة المدَّعى مبروكيتها بغرض وضعها في مكانها الصحيح بعد فحصها بالخبرة والأجهزة، واتضح أن الأمر علميًا لا يتعدى كونه مشكلة جراحية أدت إلى انتقال جزء من الأمعاء إلى منطقة ضرع العجلة الصغيرة (فتق) ، ولكن برغم ذلك يبقى الأسى في النفوس.
إن منبع ذلك الأسى عزيزي القارئ هو ما حل الكثيرين من الانحراف والانجراف عمدًا أو حتى جهلًا وراء القيل والقال، والرغبة النفسية في الخروج من الروتين بخلق المعجزات الخرافية في الأذهان ونقلها على فرش من تضخيمات خزعبلية، وشطحات دينية، والطواف حولها بالقلب والعقل الغافل مقدَّسين معظمين، فها هي مجموعة من السبح علقتها في رقبة العجلة (المبروكة) أياد عقولها نائمة، وها هي دعوات لعقول مثقوبة ببناء مقامات ومزارات لأخذ البركة من العجلة المبروكة.
ولقد طفح الأسى وفاض عندما رأيت من انساق خلف تلك الأيادي والعقول المحزن ضلالها. وعندما انتشرت ظاهرة تشدق المصدقين بلبان أخبار المعجزة. والمثل عندنا يقول (إذا كان المتكلم مجنون، فالسامع عاقل)، فلماذا أرسل البعض عقولهم لتلعب حتى يتمتعوا بهدوء وهم ينهلون من لذيذ أخبار الخرافة؟
عزيزي القارئ، إنني أصيح بنداء يرتدي زي السؤال، ألم يحن الوقت لإدخال عقولنا للخدمة؟! ألم يحن الوقت لنبذ الجهل عن طريق الاهتمام بالعلم والثقافة؟! إن تعليمنا وثقافتنا وإدراكنا هم مسؤوليتنا الشخصية، وليس عليها ملام سوانا، المنابر والمناهل العلمية والثقافية الموثوقة كثيرة، والوصول إليها في لمحة، والاستفادة منها في متناول عقل كل راغب.
علينا – على الأقل- عزيزي القارئ تثقيف أنفسنا وأن ننقل للغير ما تعلمنا، وعلينا تحفيز الغير للتعلم والتثقف، وعلينا سرعة بيان الخرافات وجلي الانحرافات، وتعليم الناس التفكير وأن العقل ممر لما تلتقطه الحواس، وهو معمل تحليل لهذه الملتقَطات يحتفظ بالصالح ويلقي التالف، ويتعامل بصورة صحيحة مع الموافق والمخالف.
قارئي الفاضل، فإنه من غير اللائق مطلقًا في عصر الذرة والعلوم الدقيقة؛ التشبث بمثل هذه المخلفات الفكرية، في حين ننبذ العلم الذي هو البركة الحقيقية التي منحنا إياها المولى العظيم، فإن كنا سنأخذ البركة لا محالة فلنأخذها من البركة التي أودعها سبحانه هذا النهر الجاري، نهر العلم المبارك، ولعله من المقبول أكثر أن تصادف أسماعنا من يقول (شيلّاه يا ذرّة) بدلًا من (شيلّاه يا بقرة).
وختامًا عزيزي فإن حديثي اليوم ليس مخصص فقط للحديث في مجال بركة الأبقار الوهمية، ولكنه عن أي خرافة تلتقطها حواسنا في عصر القيل والقال، إن علينا أن ننبه عقلنا كلما تعرضت لأفكار جديدة، ثم نمرر هذه الأفكار عليه ونرى مدى منطقيتها. وفقنا الله للصواب وجعلنا من ذوي العقول والألباب ورزقنا من الوعي وحسن التفكير الصحيح وجعل أذهاننا مدركة للصحيح والتصحيح، وإلى لقاء قريب.