نظرية البونبوني
✍ د. باسم موسى
أعلم عزيزي القارئ أنك اندهشت من العنوان. ويحتمل أنه قد رسم عنوة ابتسامة على ثغرك، أو حتى إنك قد سخرت منه. لا بأس من ذلك، لأنني أقصد فعلا لفت انتباهك إلى ما يفعله (البونبوني) في حياتنا.

من منا يا عزيزي لا تشتاق نفسه أحيانا إلى أكلة، أحد مكوناتها نفاذ الرائحة، كالبصل مثلا. وبعد أن نشبع رغبتنا المباحة في التمتع بها، نحتاج للتعامل مع الناس. وبالطبع لابد من إخفاء تلك الرائحة النفاذة المنفرة، أو حتى تقليل حدة نفاذيتها لأبعد قدر ممكن. وعلى الأرجح فإننا قد نفكر أن من أفضل الحلول هو استعمال (البونبوني). الذي يخفي ذلك الأثر المنفر.
وتذكر يا عزيزي ذلك اليوم من أيام طفولتك، الذي تشبثت فيه بالخروج مع والدك، وكان ذاهبا إلى مقابلة لا يتناسب معها اصطحاب الأطفال. وبعد تفاوض اضطر أن يتفق معك على تبادل المنفعة، بقبولك البقاء في المنزل، مقابل إحضار (البونبوني). مشكلات كثيرة، ستجدها إن سبحت في ذاكرتك كان حلها ذلك (البونبوني).
لعلك الآن عزيزي قد أدركت ما أقصده بهذا المسمى الذي وضعته في عنوان المقال. إنه يعني في العموم، ذلك المقابل الذي نقدمه طوعا أو كرها لطرف نتفاوض معه، حتى نحصل على منفعة ما، بدءاً من تلك القطعة الصغيرة من الحلوى إلى ما هو أعظم قيمة.
يتقدم بنا العمر، وتتباين توجهاتنا في الفكر فالحياة، وتتعدد الاحتياجات، فتعدد معها أشكال ذلك المقابل، والغرض من تقديمه أو منحه، ولكنه لم يتغير تأثيره على الجميع. ولم يزل الكثيرون يبحثون عنه ويحرصون عليه، بل ويسمعون بخطاهم إليه.
خبيث زينه الخداع:
ومن أخبث صور المقابل ما يطلبه أحدهم، أو يعرضه آخر في سبيل الحصول على ما ليس بحق مشروع. أو حتى تعجيل دوره في الحصول على حق مشروع. فما أذم تلك النفوس الي تقبل سلب الحق من صاحبه كي تعطيه لمن لا يستحق.
إنها الرشوة يا عزيزي، ومهما زينوها بمسميات تخدر الضمير، فسيبقى اسمها الرشوة.
وتارة تكون الرشوة، نظير حصولك على حقك… نعم عزيزي القارئ، أنا لم أخطئ التعبير. فبعض فاسدي الأنفس – الذين يسيل لعابهم لمجرد تخيل النقود – يتعمدون منعك من حقك أو تأجيله، كإشارة حتى يفهم جيبك الرسالة ويلقي بعض ما فيه، فتعود الأمور لنصابها وتقضى حاجتك بيسر وسرعة.
إنها الرشوة تلك التي تهدم المجتمعات وتنخر في جذور القيم وتدفع النفوس بعيدا عن طريق الاستقامة، فتؤجج الصراعات وتبذر في النفوس بذور الإحساس بفقد الانتماء والرغبة في الانتقام و… وأكمل أنت ما تبقى فإنك تعلمه.
وتارة أخرى تكون المصيبة أكبر عندما يتزاوج الأخبثين، الرشوة والسرقة. فيشتري لص إحدى النفوس الميتة، ببضع حفنات من الدراهم، حتى يسهل له السرقة ونهب الحقوق، أو وربما القتل المحسوب أو العارض، بنفسه أو بواسطة غيره.
حسنٌ ظاهره والباطن:
إن صور ذلك البونبوني الخبيث كثيرة وفيها تفصيلات وتفصيلات. ولكن حتى لا نظلمه، فإنه يعمل بكفاءة أيضا على الجانب المشرق من الصورة. ونحن نرحب به هناك متزينا بتاج من الحلال المرصع بالشرف.
فالعطايا والهبات من أشكاله التي تقوي الأواصر وتمهد في النفوس حب المجتمع والتفاني في التفاعل معه بإيجابية، وكذلك الهدايا التي تلين النفوس بسقيا المحبة والوداد وتمهد لقبول النصح والإرشاد والإصلاح.
أما المكافآت فهي من صنوفه المضيئة درب الدافعين لحسن الإنتاج وجودة الناتج. وحافز للمناقشة الشريفة التي ترقي النفوس والمجتمعات وتبعث على حميد الخصال. كما أن المكاسب المالية، من أرباح وعمولات تدعم التعاون وحسن التآلف في الشراكة، مساهمة في الرخاء الخاص والعام.
وأخيرا، فلن أتكلم عنه في باب الزكاة والصدقة، فجميعنا يتقن الحديث عنهما وعن صروح الخير التي تقوم عليهما، وعن ثمار الخير التي تحصد منهما. فضلا عن شرور كثيرة تدفعانها حين توفى بحقها كما وكيفا.
إنه البونبوني عزيزي القارئ، إنه السلاح ذو الحدين. يستخدمه صالح النفس وطالحها، ليحقق مآربه. وبقي لي أن أبين لك بأنه قد يتعدى كونه مالا تشتاق له الكفوف ولكنه قد يكون مصلحة تقضى أو خدمة تؤدى، أو ودا بجنى.
وبعد قارئي العزيز، ألا تتفق معي على أنه يجدر بنا بعد أن علمنا أنه موجود أيضا، على درب الاستقامة؛ أن نسعى لجنيه بشرف وارتاح ضمير؟! ألا بجدر بنا أن نجنيه وهو يبني ذواتنا ومجتمعاتنا؟! ألا يجدر بنا أن نتفاخر به حين نروي للآذان حكاية الحصول عليه؟!
عزيزي القارئ، هيا بنا سويًا ندعو الناس إلى الفضيلة. هيا نبين قبح القبيح وحسن الحسن. هيا ندعو الجميع لنبذ كل ما اجتمعت على نبذه الأديان والأعراف وطيب النفوس. لعلنا أن نكسب واحدا نثبته، أو آخر تقومه، فنستمتع نحن أيضا بمذاق طيبِ البونبوني.