الهباشون
✍ د. باسم موسى
عزيزي القارئ، عندما تقرأ العنوان تتخيل فورًا صورة ذلك الذي يمد يده بسرعة إلى أشياء غيره معتديًا يقتنص منها أكبر قدر ممكن، غير عابئ بمن حوله، ومتجرد من كل حياء أو خوف؛ يقتطع من الحقوق عنوة متبجحًا متجبرًا، طاويًا الحلال والحرام والعرف والقانون وملقيًا إياهم بعيدًا عن متناول ضميره.
هذه هي فعلاً الصورة المعتادة للهباشين في أذهاننا، ولكني جئتك اليوم بصورة أخرى من صور هؤلاء المعتدين بدأت تظهر للعلن في ربوع بيئات العمل؛ تهبش من حقوق ذلك وتلك، متذرع أصحابها بشروحات ابتدعوها وتفسيرات ادعوها للقوانين واللوائح.

إن كلمة “هبش” ليست عامية دارجة كما يعتقد الكثيرون؛ ولكنها كلمة فصحى تعني “يكسب بالحيلة”، وهو معنى ينطبق على هؤلاء المقصودين بالمقال، حيث يحرفون التفسيرات ومعاني الألفاظ والتعبيرات المصوغة بها القرارات والنصوص الرسمية المنظمة للعمل في المؤسسات، فيكون تحريفهم هو حيلتهم الخبيثة في الاستيلاء على أجزاء من حقوق زملائهم.
وقد بدأت في أيامنا هذه؛ تلك الفئة مدفوعة بظروفنا الاقتصادية الحالية؛ بالإعلان عن وجودها في بعض بيئات العمل، وهي التي كانت متخفية من قبل. نعم لقد كانت موجودة ولكن ليس بهذا التبجح والهبش في العلن، ولا بهذه الأعداد المتزايدة في كل مؤسسة، ولا بسعار القنص من كل قرش مستحق للغير، ولا بالإصرار على تكرار الهبش و تقنينه وإقراره كحق واجب لا يجوز الجدال في أمره.
إنها فئة ضعيفة نفوس أفرادها، خارت نوازع الاستقامة فيها تحت وطأة الظروف الاقتصادية فراحت تنقض على حقوق الزملاء منقبة عما يمكن هبشه منها، ثم راحت تتعاون فيما بينها تربطها روابط مصالح شيطانية التكوين، فراحت تنقب أيضًا في ثغرات القوانين واللوائح، محرفة معاني وتفسيرات يجهل الغالبية مقصودها الصحيح، متذرعة بأنها المنوط بها وحدها تلك الشروحات والتفسيرات، ثم راحت تطبق تلك المعاني المحرفة كقواعد مسلم بها وقوانين واجب الالتزام بها، ناهبة كل ما يمكنها بلهفة شيطانية سوداء الأظافر، وهذه الفئة غالبًا من ذوي المناصب الإدارية أو المتلاصقين بهم بنوع ما من العلاقات الخبيثة.
وتخيل عزيزي القارئ مصيبة موظفي مؤسسة ما؛ تتلاقى فيها أطماع فئة الهباشين مع مدير من فئة المتعاملين تحت المنضدة، أو رئيس عمل ضعيف نفسيًا أو إداريُا؛ فتجبره أو تخدعه أو تغريه جماعة الهبش بغية الانصياع لجشعها أو مساندته أو التغاضي عنه، وتخيل كما تحدثنا في مقال سابق أن هذا المدير سيكشف لعموم مرؤوسيه عن أنيابه الإدارية كي يخفي ضعفه أو فساده، فما هو وضع المؤسسة حينها؟ بالطبع ستنتشر أدواء وأجواء من السخط والتقاعس عن العمل والتحزب المؤسسي والنزاعات، مع بزوغ أنماط من العداوة وربما يندلع العصيان أو التخريب داخل المؤسسة.
إن مزيجًا من طبقة موظفين لا تحصل على حقوقها المالية، وطبقة هباشة تنهب تلك الحقوق جهارًا نهارًا، ومدير يقمع المتضررين لتضررهم، ويطرد المستغيثين به من ظل الأمان الوظيفي، وينكل باللاجئين إلى القضاء تأديبا لهم على عدم رضاهم بالجور في المؤسسة، يا له من مزيج يزكي جو عمل مؤجج يحرق المؤسسة وسمعتها وإنتاجها وتطورها وتنمية القدرات المهنية والبشرية بها.
للأسف قد تتسبب بعض الأيادي المرتعشة بالمؤسسات في تلك المأساة، حيث تصدر القرارات بالمستحقات المالية خالية من أي توضيحات محددة باستحقاقية هذه المستحقات، ودون قدرة على التصريح بالمقصود الفعلي وقت الإصدار، فنجد منهم من يصدر التعليمات شفهيًا ثم ينكر عند أول نزاع خوفًا على الكرسي الفاخر ذي العجلات، ونجد منهم من يتفنن في صياغة مطاطة العبارات كي يفلت ويتملص وقت الحاجة أو يمنح ويعطي وفقا لأمواج الظروف، ونجد منهم من يفصل القرارات قابلة للإلغاء والتعديل كل بضعة شهور كي تتماشى مع الأجواء والأهواء، ونجد منهم من يصدر قرارات متضادة يستخدم كلا منها وفقًا لانصياع ذراع الموظف وإطاعة الأوامر بأداء تكليفات ما وراء الستار.
أما عن فئة المدير الزائر فحدث ولا حرج، وأقصد به ذلك الذي أتى ليترأس قسمًا أو قطاعًا أو مؤسسة لبضعة شهور قبل الإحالة للمعاش، فبعض تلك الفئة يأتي ناصبًا عيونه (وليست عينيه) على جمع المال، مطأطئا للهباشين غاضًا الطرف عنهم كي تمر أموره بسلام في الظل ويعبئ حقائبه بهدوء.
قد أبدو قاسيًا في تعبيرات قلمي، ولكن قسوتها هي وليدة وريثة لبعض المآسي الحقيقية في بيئات عمل حقيقية تذرف القلوب أنهار دموعها حزنًا على ما حدث بها من ضمائر ماتت ففجر أصحابها، وعلى أوضاع بعض العاملين فيها؛ المنهوشة أجسادهم من عضات هذا الطماع ومخالب ذاك الجشع.
ولو رحت تفكر قارئي العزيز لماذا انتشرت الرشوة والنفاق الإداري والوساطة و… إلخ، فإن من أكبر أسبابها هو تحقيق النتيجة النهائية المعروفة؛ المال. ولذا فإن هؤلاء الهباشون متآزرين يدفعون بسرعة عجلة الفساد الإداري الذي قد تكون النية الأولى فيه هي الحصول على حقوق اختلقتها عقولهم، ثم تنحرف النية رويدًا في غفلة إلى حقوق هذا وذاك حتى يحاط صاحبها بالأمواج في بحر فساد كبير لا تبدو له شطآن، تتساوى فيه النيات الأول من حيث الصلاح والفساد. فالنتيجة أنه ترك نفسه تتقاذفه أمواج الفساد حتى صار يأخذ ما يعلم أنه ليس من حقه.
الضحك على الذقون… هذا هو المصطلح الدارج المناسب لوصف الهباش، ولتتعجب عندما تعرف أنه يمارس ذلك المبدأ مع نفسه أولاً قبل ممارسته مع ضحاياه، فبعض الضمائر حين تموت تترك ميراثًا من اللوم داخل النفوس، ولكي يتجنب الهباش لوم نفسه لنفسه؛ فإنه يضحك على ذقنه أولاً لكي يخدع نفسه أن ما يهبشه حلالاً وحقًا مؤكدًا، وبهذا تترك نفسه العنان لعقله الفاسد ليضع خطط الهبش ببراعة وتلذذ.
إن الحاجة للمال هي ما يدفعني ويدفعك ويدفع الهباش للخروج من بيته متكبدًا العناء، ولذا فإني أدعو كل هباش كي يتخيل أن كان في مؤسسة يوجد فيها الأقوى منه الذي ينهش جلده وعظامه، ماذا كان يشعر أو يفعل وقتها؟! ألم يكن ليعلن ثورته على الهباشين، ويلعنهم في كل حديث؟!، بالطبع لن يجيب دعوتي أحد غالبًا، فما من هباش يعلم أنه كذلك، وحتى إن علم فأنى له الضمير والشجاعة ليعلن أمام نفسه انحرافه كي تستجيب!
ومن هنا فإني أنادي بعودة صحوة إرواء الضمائر وإحيائها بمبادئ الاستقامة، مبادئ الدين والأخلاق التي كنا نتعلمها في البيت والمسجد والشارع والمدرسة، وكان يؤكد عليها الإعلام في جريدته وتلفازه وإذاعته، أنادي كي يكون لدينا ولو أدنى قدر يقومنا إذا اعوجت خطواتنا، فكلٌ مطالب بأن يراجع سلوكه في الحياة كل فترة، فلسنا قطارات تسير على دروب مستقيمة محددة كي نهمل متابعة الطريق ومراقبة إلى أين نذهب في خضم زحام الحياة التي يسمونها عصرية.
يجب أن نتخلى عن الأنانية التي ينبع منها كل ظلم وفساد مؤسسي، فكما تستحق أنت؛ أستحق أنا أيضًا، فليأخذ كل منا حقه بالمكيال، حتى تستقيم الأمور ويصبح المناخ في المؤسسات مفروشًا للتنمية والتطوير، وعندها سيزيد باستمرار ما يحصل عليه كل عامل فيأكله حلالاً هنيئًا خاليًا من دعوات مظلومين تحول هناءه سمًا زعافًا.
كما أنادي قلب كل مدير، أن يراعي الله، نعم راع الله فإنك تحمل أمانة كل موظف تحت رئاستك، وأنت مسؤول أمام الله عن كل قرش دخل له أو ضاع منه، ومسؤول عن كل مشكلة حدثت له بسبب ضياع الحقوق أو اكتساب حقوق بلا استحقاق. لا تدع حب المال يربطك بكرسي لا تستطيع وفاء حقوقه فإن أحسست بضعف أو إجبار على الخطأ فاترك الكرسي حفظًا لاستقامتك وأمانتك، فإن فترة تباهيك زائلة قريبًا وحسرتك باقية طويلاً ودعوات من ظلمت ستلاحقك أنت وأولادك إلى يوم المحاكمة العظيم.
أنادي كذلك بتقليد مقاعد ومناصب إدارات وأقسام الشئون القانونية بالمؤسسات لأمناء مخلصين معروفين بالضلاعة القانونية والحكمة وقوة الشخصية، حيث أن هذه الإدارات هي المنوط بها التفسير الصحيح الواضح للنصوص الرسمية والقانونية، وهي درع الأمان للمظلوم، وهي الرادعة للظالم، والحكم في الخصومات، وهي الراية المرفوعة التي يخشاها كل مقدم على خطأ ويطمئن بها كل مستقيم.
عزيزي القارئ علينا دور كبير في بيان ذلك الفيروس الإداري الفتاك وبيان خطورته على المؤسسات والوحدات الإنتاجية والخدمية؛ وبالتالي على بلادنا قاطبة. علينا التحذير منه وإظهار أخطاره ومفاسده، ورأي الدين والعرف والقانون فيه، وعلينا مكافحة المتلاعبين بتفسيرات اللوائح والقوانين لجلب المصالح الشخصية والجامحين في معاقبة الواقفين أمام الفساد الإداري. إن علينا أدوارًا كثيرة؛ فمن علم عليه أمانة إصلاح نفسه وأمانة البلاغ، وفقنا الله جميعًا لرفعة شأن بلادنا بإصلاح أنفسنا ومن نستطيع من حولنا، وحمايتها من كل ما يضر بها ويعطل تنميتها وتقدمها.
وإلى لقاء.