مقالات

أكذوبة الأسلحة الفاسدة التي أطاحت بالملك

 

 

كتبت/ ملك محمد عبد الغني

 

قضية الأسلحة الفاسدة هي من أكثر القضايا التي يقال عنها فور سماع سيرتها أنها السبب الرئيسي في هزيمة مصر و العرب في حرب 1948م ، و أنه تم احتلال فلسطين رسمياً بعد هذه الحرب بشكل مباشر ، و أيضا نربط هذه القضية بثورة 23 يوليو عام 1952م التي قام بها الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر ، و دائماً ما يتم الترويج لكلمة ( الأسلحة الفاسدة ) بمختلف الطرق على مر العصور لتكوين انطباعات معينة عند الشعب المصري بخصوص هذه القضية ، و كانت هذه الكلمة دائماً تصدر كعنوان رئيسي عن فساد الحقبة الملكية بشكل عام و الملك فاروق بشكل خاص.

 

ما هي الحقائق التاريخية عن قضية الأسلحة الفاسدة؟

 

في بداية الأمر قررت القيادة السياسية في مصر التي تتمثل في الملك فاروق و معه أيضا رئيس الوزراء حينها ( النقراشي باشا ) بدخول حرب فلسطين بعد القيام بتكليف رسمي لها من جامعة الدول العربية ، و كان هذا قبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين بحوالي أسبوعين فقط ، و تم عرض القرار على البرلمان المصري الذي قرر دخول هذه الحرب قبل التاريخ المحدد لانتهاء الانتداب البريطاني بحوالي يومين فقط.


نظراً للعجز الشديد في الجيش المصري من الأسلحة و العتاد اللازم للحرب و نظراً لضيق الوقت ، تم تشكيل لجنة و سميت باسم لجنة احتياجات الجيش ، و كان هذا في يوم 13 مايو عام 1948م ، و كانت هذه اللجنة لها صلاحيات كبيرة جداً و بدون أي قيود أو حتى رقابة حتى تتمكن من استيراد الأسلحة من أي مصدر و بأسرع وقت ممكن ، و حينها تم إصدار قرار من قبل مجلس الأمن بحذر بيع الأسلحة للدول المتحاربة في فلسطين و كان يقصد بهذا القرار الدول العربية بالتحديد ، وبسبب وجود هذا القرار اضطرت الحكومة المصرية التي كانت تتمثل في لجنة احتياجات الجيش أن تقوم بصفقات الأسلحة مع شركات السلاح و هذا بمساعدات من بعض كبار من المصريين و الأجانب مما ساعد بشكل كبير على القيام بمختلف أنواع التلاعب لتحقيق مكاسب هائلة و عمولات غير مشروعة ، و كان يتم هذا التلاعب في شيئان أساسيان جداً ، و هما : أولاً السعر الذي كان يتم به شراء السلاح : و كان سعره أعلى بكثير من الطبيعي و مبالغ فيه.

ثانياً مدى مطابقة السلاح للمواصفات و درجة صلاحيته للأستخدام.

 

و كان من ضمن الأسلحة التي استخدمها الجيش المصري في الحرب بنادق ألمانية الصنع ، و نجح الملك فاروق في إحضار 20 ألف بندقية من هذا النوع و 17 ألف بندقية نصف آلي ، التي لم تصل في ميعادها المناسب و تم وصولها بعد انتهاء الحرب في عام 1950م ، وتم عقد صفقة أخرى بشراء 250 ألف قنبلة يدوية من مصنع في إيطاليا ، و كان سعر القنبلة الواحدة 750 مليم ، و بعد وصول هذه القنابل لمصر و تم اختبار كفاءتها وجد أنها أقل كفاءة من القنابل المحلية المصرية التي كان يتم تصنيعها في ورش السكك الحديد السرية ، و التي كانت تتكلف 350 مليم فقط ، فتم الاستغناء عن هذه القنابل و أخذت المخازن تحاول في تطويرها وذهب جزء قليل منها لفلسطين لاستخدامها في الحرب.

و قام الملك فاروق بعقد بعض الصفقات السرية لشراء القذائف و بعض سيارات النقل الكبيرة و قام بشراء مصنع في أوروبا لإنتاج الذخيرة و الطلقات ، و دخلت مصر الحرب ، و في يوم 24 فبراير عام 1949 كان من المتوقع حدوث هدنة بين مصر و اسرائيل و لكن انتهت الحرب فعلياً بهزيمة مصر و استيلاء إسرائيل على كل أرض فلسطين فيما عدا قطاع غزة و الضفة الغربية و القدس.

 

متى تم ظهور قضية الأسلحة الفاسدة بشكل علني ؟

 

في أوائل عام 1950 أصدر ديوان المحاسبة الذي يشابه الجهاز المركزي للمحاسبات الموجود حالياً تقرير ورد مخالفات مالية ضخمة في صفقات الأسلحة التي تمت قبل و أثناء الحرب ، و حاولت الحكومة برئاسة مصطفى النحاس باشا أن تضغط على رئيس الديوان حتى يقوم بحذف بعض المخالفات من هذا التقرير و لكنه رفض هذا تماماً و قام بتقديم استقالته ، و بعد استقالة رئيس ديوان المحاسبة قامت المعارضة التي كانت تتمثل في النائب البرلماني مصطفى مرعي بتقديم طلب استجواب للحكومة عن أسباب استقالة رئيس الديوان و فضح هذا النائب في جلسة البرلمان في يوم 29 مايو عام 1950 كل المخالفات الجسيمة التي كانت توجد في هذا التقرير و بسببه رفض رئيس الديوان تعديله و قدم إستقالته.

قامت حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس و معهم الملك فاروق باستخدام جميع الوسائل المشروعة و غير المشروعة حتى يتمكنوا من إيقاف صوت المعارضة التي كانت تريد فتح التحقيق في هذه القضية للتمكن من الوصول إلى المتورطين الحقيقيين فيها ، و بالفعل كانوا على وشك النجاح في هذا لولا الكاتب إحسان عبد القدوس و مجلته الشهيرة التي كانت الأكثر انتشاراً في مصر حينها مجلة ( روزاليوسف ) ، الذي بدأ بنقل أخبار عن صفقات السلاح المشبوهة للرأي العام ، و رأى أن الفساد في مصر قد يصل إلى المتاجرة بدماء الجنود المصرية على أرض المعركة ، و بالفعل نجحت مجلة روزاليوسف في تكوين ضغط شعب كبير اضطر وزير الحربية حينها ( مصطفى نصرت ) بسبب هذا الضغط أن يقوم بتقديم بلاغ للنائب العام في التحقيق فيما تم نشره في مجلة روزاليوسف عددها رقم 149 بتاريخ 20 يونيو عام 1950م.

 

بعد تقديم مصطفى نصرت هذا البلاغ قام النائب العام محمود عزمي بالفعل بفتح التحقيق في هذه القضية ، و التي تم تقسيمها لقضيتين منفصلتين ، القضية الأولى كان بها متهمين من أفراد الحاشية الملكية ، و القضية الأخرى كانت بها أفراد من الجيش و بعض المدنيين ، و بالنسبة للقضية الأولى التي كانت تتهم حاشية الملك و تحت ضغط مستمر من الملك فاروق و كانت الحكومة لا تمانع من هذا الضغط فقرر النائب العام حفظ التحقيق في هذه القضية ، و كان هذا في يوم 27 مارس عام 1951م ، أما بالنسبة للقضية الأخرى فقد تم تقديمها للمحكمة و استمرت جلساتها أمام القضاء إلى أن تم تحديد لها تاريخ النطق بالحكم ، و كان 10 يوليو عام 1953م ، و كان هذا بعد قيام الثورة بحوالي سنة ، و صدر هذا الحكم ببراءة كل المتهمين من كل التهم المنسوبة لهم باستثناء شخصين فقط من المتهمين , و هما : الباكباشي حسين مصطفى منصور و لقائمقام عبد الغفار عثمان و كان هو المسئول عن شراء أل 250 ألف قنبلة يدوية من إيطاليا , و تم الحكم على كل منهما بغرامة 100 جنيه.

 

كان هذا الحكم بالنسبة للرأي العام كالصاعقة , و خصوصاً أن هذا الحكم صدر بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952م , لأن لم يكن هناك داعي للتستر على المتورطين في هذه القضية , و حتى الآن لا أحد يعرف ما السبب الحقيقي الذي جعل المحكمة تحكم ببراءة المتورطين في القضية.

أما بالنسبة لهزيمة الجيش المصري و أكذوبة الأسلحة الفاسدة :

هل حقا كان هذا السبب الرئيسي في هزيمة الجيش المصري ؟

السبب الحقيقي لم يكن الأسلحة التي تم شراؤها و هذا من خلال تحقيق أكثر من جهة و بشهادة الضباط و الجنود المشتركين في الحرب إن الأسلحة التي تم شراؤها في هذه الصفقات المشبوهة لم يكن لها أي تأثير نهائيا في مجريات الحرب نفسها , و سنجد أن أسباب الهزيمة في الحرب أسباب أخرى و مختلفة تماماً و ليس لها أي صلة بصفقات الأسلحة الفاسدة.

أولا : كانت معظم الأسلحة المستخدمة فعليا في الحرب كانت مجمعة من مخلفات الأسلحة التي تم استخدامها في الحرب العالمية الثانية , و تم اختيار الأسلحة الصالحة منها للاستخدام و تم إرسالها إلى أرض المعركة , و ثبت في التحقيق أن هذه الأسلحة لم تكن صالحة للاستخدام , و تسببت بانفجار 4 مدافع في يوم 7 و يوم 12 يوليو , و كانت الخسائر في الأرواح و الإصابات لم تتعدى أل 10 جنود حتى , وهذا يعني أن معلومة (أن الجيش المصري كلما يحاول ضرب العدو ردت الطلقات لهم مرة أخرى وتم قتل الكثير من الجنود المصريين بسبب الأسلحة الفاسدة) هي معلومة خاطئة.

ثانياً : الدبابات التي كان يحتاجها الجيش المصري ليستطيع اقتحام المواقع الحصينة التي صنعها اليهود في مستعمراتهم , و لكن رفضت بريطانيا بيع أي دبابة للجيش المصري , فأرسل الجيش ضابط بملابس مدنية حتى يستطيع شراء دبابات إنجليزية من طراز لوكاست , و كانت تباع كخردة في مزاد علني في معسكرات الإنجليز في قناة السويس , و بالطبع تم هذا بعد ما تم نسف فوهة مدافع كل الدبابات قبل عرضها للبيع في المزاد , و بالتالي أصبح المدى لكل مدفع كان يختلف على حسب الأطوال المتبقة من الفوهة الخاصة به , و هذا كان سبب في أن استخدام هذه الدبابات في المعركة لم يكن فعال بالمرة.

فباختصار بسيط لقصة الأسلحة هو أن في الحقيقة كان نعم هناك القليل من الأسلحة الفاسدة التي قامت السماسرة المصريين و الأجانب بتوريدها للجيش المصري بمبالغ أضعاف سعرها الحقيقي , و حققوا من خلفها هؤلاء السماسرة و الحاشية الملكية و من الممكن أيضا الملك نفسه غنى فاحش , و لكن هذه الأسلحة لم تستخدمهم في ميدان المعركة حتى و بقى معظمها في الصناديق بالمخازن , و كانت الخسائر التي حدثت كانت معظمها بسبب الأسلحة التي استخدمها الجيش من أسلحة الحرب العالمية الثانية و خردة الإنجليز.

إذا ما هو السبب الحقيقي لهزيمة الجيش و وقوع فلسطين بشكل رسمي في يد إسرائيل ؟

تم اختزال كل الأسباب لهذه الهزيمة فقط في سبب الأسلحة الفاسدة و فساد الملك و لكن يمكن تقسيم أسباب هذه الهزيمة لقسمين , أسباب سياسية و التي مهدت لهذه الهزيمة من قبل بدأ الحرب و أسباب أخرى عسكرية كانت على أرض المعركة نفسها.

و الأسباب السياسية هي أن أمريكا و إنجلترا و فرنسا كانوا مع اليهود قلبا و قالبا و بكل الدعم حتى يكن لهم دولتهم الخاصة بهم على أرض فلسطين , و يتمثل هذا الدعم في تشجيع هجرة اليهود من بلدهم من كل مكان في أوروبا و بأعداد ضخمة لفلسطين , و غير الدعم الكبير بالأسلحة و الذخيرة و تدريبهم على استخدامها و التدريب على كل الفنون العسكرية , و من الأسباب السياسية أيضا هو دخول الملك عبد الله الأول ملك الأردن في اتفاق سري مع الإنجليز و الوكالة اليهودية.

بالطبع هذه الأسباب السياسية كانت تكفي لإنهاء المعركة قبل أن تبدأ , و لكن في داخل أرض المعركة نفسها كان هناك الكثير من الأسباب التي أدت لهزيمة الجيش في حرب 1948م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا