التاريخ والآثار

الصعيد و نابليون الإنتصار الكاذب “

 

بقلم : عبدالعزيز مصطفى

كانت خاتمة القرن الثامن عشر لا تنذر بالخير لجموع المصريين ، في الشمال قوات نابليون بونابرت انتصرت على المماليك في عدة مواقع و معارك متعددة على الوجه البحري لمصر سنة 1798 و بعد وصول نابليون بونابرت إلي القاهرة و صعوده لسدة الحكم بها قرر أن يرسل الجنرال “ديزيه ” على رأس حملة و تجريدة من خونة المماليك الى صعيد مصر خاصة

وكانت له في تلك التجريدة على الصعيد أسباب و مشاكل عديدة كانت الدافع الأكبر لنابليون بونابرت لأن يرسل جيوشه الى الصعيد وكان على رأس قائمة تلك المشاكل هروب ” مراد بك” زعيم المماليك بعد هزيمته في معركة امبابة و بعد هزيمته لم يكتفي بالنجاه وحسب بل أخذ يجمع حوله فرسانه من المماليك وعقد اجتماعات لمحاصرة الفرنسيس بمشاركة العربان والمقاتلين من الأهالي و فرسان الهمامية

و القبائل المقاتلة و قد انضم شيخ العرب حسن طوبار الي القتال أيضاً إلى جوار المماليك ، و بعد كل ذلك كان بإمكان مراد بك أن يزحف بجيشه من صعيد مصر إلى القاهرة، كما يمكنه أن يحاصر العاصمة ويمنع عنها الإمداد القادم من الجنوب، فضلاً عن أنه يحرم بونابرت من عوائد الضرائب والمواد الخام بالصعيد، تحرك ديزيه بحملته من الجيزة

وزحف جنوبا و لكن دور مراد بك لا تهتم به كثيراً لأن مراد في نهاية الأمر سوف يخون و يعقد معاهدة مع الفرنسيين ويحكم الصعيد باسمهم، حتى أن اهالي الصعيد المصري اطلقوا عليه “السلطان الفرنساوي” و برر مراد بك فعلتة تلك بأنه تعب من المقاومة ضد الجيش الفرنسي فتصالحا معاً و لكنت كانت كل خطواتهم لا تأتي إلا بالسوء علي المصريين،

الصعيد و نابليون الإنتصار الكاذب “

خيانة مراد بك للثورة والثوار”

ولقد لعب مراد بك دوراً دنيء جدآ في إجهاض ثورة القاهرة الثانية مع الجنرال كليبر بمعارك لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة فقد كانت مقاومة الأهالي لغزو محتل اجنبي وطأ ديارهم أروع ما سجله المؤرخين المعاصرين للحملة الفرنسية علي مصر و من بينهم المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي الذي كان و رغم صداقته لقادة الجيش الفرنسي أول من سجلوا بطولات حقيقية لشباب مصريين

و عرب شاركوا في القتال ضد الفرنسيين، في كل قرية ومدينة تقريبا، و رغم ذلك فما يهمنا هنا عدة أمور من أبرزها أن الأهالي كانوا يدركون أن الجيش الفرنسي اقوى منهم تسليحا وتدريبا، كان لدى الفرنسيين المدافع والبنادق، والقدرة على التخطيط العسكري الحديث، ولم يكن لدى الاهالي سوى سلاحهم التقليدي من سيوف وغيرها

ومع ذلك لم يستسلموا، ولم يفقدوا ايمانهم بالقدرة على دحر العدو، وصحيح انهم تحملوا الكثير من الخسائر، قتل المئات منهم وأحرقت بيوتهم و مزروعاتهم، لكنهم لم يفقدوا ايمانهم بواجب الدفاع عن بلادهم وديارهم، ولأنهم أكثر ادراكا وعلماً بجغرافية المكان، لذا كبدوا الفرنسيين الكثير من الخسائر، وكانت مقاومتهم أحد الأسباب القوية التي دفعت كليبر الى أن يفكر جدياً في التفاوض على الخروج النهائي من مصر بحملته. الجغرافيا تصنع أحداث التاريخ، أو تساهم في صنعها بقدر كبير، في مناطق الوجه البحري بمصر وأثناء المقاومة

كان البحر المتوسط مصدراً متواصل للدعم القادم من الدولة العثمانية أو من بلاد الشام، التي إبلا قادتها قتالاً ولا أروع ك أحمد باشا الجزار المملوكي الذي آتي من بلاد الروس و كان يثير الرعب في قلوب من واجهوا قواته فقد كان رجلاً لم تعرف الرحمة طريقاً لقلبه وقد تحدث عنه محمد علي باشا نفسه بمدى خوفه منه و أنه كان المرشح الأول لتولي حكم مصر بعد الحملة الفرنسية علي مصر لولا موته ..

ثورة الصعيد و عرب الجزيرة “

و أما ما قد دار في الصعيد و أهله و قبل خيانة مراد بك فقد جاء الدعم من عرب الحجاز، هؤلاء كانوا يعبرون البحر الأحمر بطرقهم، وينتشرون في مناطق الصعيد التي كانوا يعرفونها جيدا، ويعرفون عائلاتها لصلات النسب و القرابة، وشاركوا في المقاومة بأعداد كبيرة وكان هناك ايضا بعض القادمين من اليمن، وشكل هؤلاء جميعا مصدر قلق للفرنسيين ولا يعرف كثيرون عمق العلاقة بين جانبي البحر الأحمر تاريخيا

فمنذ العصور القديمة، حتى قبل دخول مصر في الإسلام، بل يعتقد أن تكتلهم و دفاعهم عن بعضهم كانت بالأساس إحدى ضرورات الجغرافيا المشتركة بينهم و على الأرض دارت عدة معارك في المنيا و قد كانت إحدى المعارك بالمنيا يوم 23 أبريل عام 1799 فقد اجتمع حشد من الاهالي يتراوح بين ثلاثمئة الى اربعمائة مقاتل بين فارس و سائر على قدميه

ومثلهم من المكيين أو عرب الحجاز من أهل الجزيرة العربية في قرية “طهنشا” جنوب المنيا، وقد استعدوا لمهاجمة الجالية الفرنسية المتواجدة بالمنطقة، واستمرت المعارك ثلاثة أيام حقق فيها الاهالي والعرب بعض الهجمات الخاطفة، واستعمل الفرنسيون ثلاثة مدافع، وانتهت العمليات بما يزيد على ستين قتيلا في الجانب المصري، وأكثر من 150 جريحا بين الأهالي والمكيين، أما الخسائر في الجانب الفرنسي، فقد قدرها الفرنسيون بعشرة من القتلى الى جوار 27 جريحا، وفي احدى المعارك ضم جيش مراد بك اكثر من الفي مقاتل جاؤوا من جدة وينبع وغيرها، ونظراً لأن المقاتلين من الاهالي ومن العرب الحجازية كانوا أكثر إلماماً بجغرافيا المنطقة كلها، فإن خطة مراد قامت على انهاك الجيش الفرنسي في مناطق الصعيد النائية والمتباعدة، ومع قسوة الطبيعة التي لم يعتدها الجنود الفرنسيون فإنهم انهاروا معنويا. ويبدو أن ميناء القصير كان مصدر ازعاج للفرنسيين، كان مصدر المدد الى الصعيد عبر البحر الأحمر، وازداد القلق لديهم بعد أن علموا بوصول بعض السفن الانجليزية الى البحر الاحمر في المسافة بين جدة والقصير، ولذا وصلوا الى المدينة واحتلوها، كانت قرية صغيرة وقتها ورغم أن الجيش الفرنسي تمكن من إحكام قبضته على الصعيد وتوقيع المعاهدة مع مراد بك في 5 ابريل عام 1800 لم تتوقف المقاومة يوما في أي موقع، وهذا ما أقنع الفرنسيين بضرورة مغادرة مصر نهائيا وهو ما حدث بعد عام بالضبط. ولم نكن نعلم الكثير عن المقاومة في الصعيد إلا من خلال اعترافات ومذكرات قادة الحملة وضباطها أنفسهم، ذلك أن مصدرنا الأكبر حول الحملة هو عبدالرحمن الجبرتي المؤرخ العظيم، لكنه كان مقيما في القاهرة، ولذا ركز عليها ولم يهتم بالقدر الكافي بتفاصيل ما جرى في الصعيد وكذلك في الوجه البحري، ولأن مصادر الحملة هي المتاحة فلا نستبعد اهمالهم أو عدم تركيزهم على كثير من الجوانب الايجابية في المقاومة المصرية، ومع ذلك، فإن ما ذكروه يكشف وحشية الجيش الفرنسي في قمع الانتفاضات وعمليات المقاومة، كانوا يحرقون قرى بأكملها وبيوتا على ساكنيها، ويضربون الآمنين كما حدث في جزيرة فيلة بأسوان، وإذا كانت المقاومة تكشف الجانب الوطني للأهالي في الدفاع عن بلادهم وأهلهم فإنها تكشف زيف الادعاء بأن الجيش الفرنسي جيش نابليون جاء الى مصر والمنطقة لينشر فيها النور والحضارة تلك الحضارة التي جعلته يدمر بلاد بكاملها بإسم الحرية و مبادئ ثورته التي يتعامل بها بعض من يتفاخر بتاريخ فرنسا و خاصةً الحروب النابليونية ف إلى متى يظل التاريخ يرى بعين واحدة و يرويه من رأي نفسه المظفر بالنصر وحيداً حتي و لو خرج من بلادنا هربا من ويلات المقاومة الشعبية العنيفة..

الصعيد و نابليون الإنتصار الكاذب “

مصادر المقال..

كتاب تاريخ الجبرتي الجزء الثاني ل عبدالرحمن الجبرتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا