حوارات

بلسم على الجرح لنذير بن دانية 

 

 

حاورته :  عائشة عمي 

 

يقال عندما تغير أولوياتك تتغير حياتك ما رأيك؟

هذا كلام منطقي.. ولو بحثنا عن أصله لوجدنا بأن ترتيب الأولويات يكون وجها آخر لترتيب القيم الحاكمة في البرامج العليا من دماغ أي فرد..

وسأضربُ مثالاً على ذلك كي يتضح المعنى أكثر: 

زيدٌ طفلٌ في مرحلة الدراسة من أهمّ أولوياته الظّفرُ بشهادة التعليم الابتدائي أو  التعليم المتوسط أو التعليم الثانوي.. فحياته تكون بين شراء كتب وأدوات مدرسية وواجبات منزلية واستعداداتٍ لفروض وامتحانات.. وحينما يصلُ إلى مرحلة الشّباب حينما تنمو طُموحاته وأحلامه ويشتدّ عُوده وتقوى عضلاته.. فتكون من أولوياته أن يكون ذا جسم قوي وعقل ذكي ويفكر في أن يكون له منصبٌ سامي في العمل ومكانة راقيةٌ في المجتمع.. فنراهُ في حياته متردّداً على الملاعب والصّالات والمكتبات والمحاضرات والجمعيات والإدارات والمؤسسات بحثًا عن شيء يُغذي تلك الجوانب التي أصبحت لها الأسبقية في دماغه ويُفكرُ في إمتلاك بيتٍ فاره أو سيّارة رائعة.. وزيد ذاتُه حينما يصلُ إلى سنّ الشّيخُوخة ويخالجهُ شعورُ الاكتفاء بالحياةِ الدنيا ويتطلع إلى حياةٍ عُليا بعيدةً عن الضّوضاء والرّكض والهَرج والمرج.. فيكونُ من أولوياته البحثُ عن الأماكن الهادئة والبساتين الخَضراء والكلام الصّادق البعيد عن المُجاملات الزّائفة..

وكلّ ما سلف ذكرهُ غالبا ما يتجلّى في ما يُطلقُ عليه في البرمجة اللغوية العصبية بالتّصنيف فما هو التّصنيف يا ترى؟

التّصنيف هو تركيز الإنسان في حديثه والطواف غالباً حول موضوع بذاته متعلق بهذه الاروقة الكبرى : الناس – المعلومات – النشاطات – الأماكن – الأشياء – المال – الزمن … فلكلّ انسان ترتيبهُ الخاص به المتعلق بانطلاقاته القيمية والتربوية..

فالتصنيف عند زيد في مرحلة الطفولة يكون كما يلي: المعلومات بدرجة أولى ثم الزمن ثم النّشاطات.. وهكذا.. اّمّا في مرحلة الشّباب فيكون تصنيفهُ: المال بدرجة أولى ثم المعلومات والنشاطات بدرجة أقل وهكذا.. أمّا في مرحلة الشّيخُوخة فيكون تصنيفهُ: الأماكن بدرجة أولى ثم الأشياء ثم يتناقص الترتيب إلى آخر اهتمام.. وأكيد بأن هذا يختلف من شخص إلى شخص آخر..

فخلاصةُ القول بأنّ الأولويات تنبعُ أساساً من القيم الحاكمة للفرد ثم تظهرُ على لسانِه قولاً على مُستوى التصنيف ثم تتجلّى على كيانه فعلاً وحركة في الميدان.

وأختم بقصةِ محمد الفاتح الذي كانت أمهُ تحملهُ في صغره إلى مشارف مدينة القُسطنطينية صباح كل يوم وكانت تقولُ له : يا محمد، هذه مدينة القسطنطينية التي بشّر رسُول الله صلّى الله عليه وسلّم بفتحها على يدِ المسلمين، أسال الله أن يكون هذا الفتحُ على يديك، فيردُّ الطّفل : كيف يُمكنني فتح هذه المدينة الكبيرة وأنا صغيرٌ يا أمي؟ فتجيبهُ: (ستفتحُها بالقُرآن والسُّلطان والسّلاح وحُبّ الناس).

هُنا كانت الأم تزرع قيمهُ الحاكمة في نفسه ورأسه وتتعهّدُها بالسّقاية تكراراً واستمراراً.. وهكذا كبُر محمد وكبُرت أحلامهُ وطُموحاته وانتظمت أولوياتهُ فأصبح في مُقدمة قادةِ الدّولة العثمانية.. وحينما بلغ من العُمر 22 عاماً، وماتَ أبُوه السّلطان مُراد الثاني تحوّلت أولوياتهُ إلى همٍ حقيقي في حَياته فلم يعُد يرى نفسهُ إلا فاتحاً لتلك البلاد التي بشّر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفتحها.. فبذل جُهوداً عظيمة لإعداد الجيش وتدريبه فكان هُو.. هُو الفاتح بتوفيقٍ من الله له.. وهكذا نفهم ختاماً بأن تفاعل القيم الحاكمة في دماغ الإنسان تنبثقُ منها الأولويات اسماً وترتيباً ثم تتحوّلُ إلى مَنهجِ حياة قَولا وفعلاً.. واللهُ أعلم..

 

قد وقفتم في إحدى الملتقيات على مواهب ناشئة لذوي الهمم العالية ماهي رؤيتكم حول هذه المواهب؟

هذا السؤال ذكرني بلحظات لا تُنسى مع هذه الفئة، وحقيقة لأول مرّة أقتربُ منهم أكثر وأسمع منهُم لا عنهُم فقط.. وكان هذا في مُلتقى إبداعات ذوي الهمم العالية بمدينة الورود البليدة في ديسمبر من العام المُنصرم.. وكان أول ما تفاجأت به هو مُيولهم لأن نُناديهم بذوي الاعاقة لا ذوي الهمم.. وأحسستُ من كلامهم المملوء بالصّدق – حينما ناقشتهم –  بأنهم لا يبحثُون عن الشّفقة باستعمال الألفاظ معسُولة تحصُرهم في دائرة المسكنة بل هم يبحثُون عن المشاركة الفعالة مع الأصحاء على قدم المساواة.. ففيهم الرّسامون والكتّاب والشّعراء والحرفيُون والمبدعُون في كل المجالات.. وسأروي لكم موقفين شاهدين من عديد المواقف التي تركت فيّ أثرا كبيراً..

الموقف الأول والذي لفت انتباهي كان من أختٍ فاضلة من هذه الفئة.. ففي اليوم الأول من وصُولي لمقر الاقامة المخصّصة لنا.. حينما اتجه صديقي إلى مطعم الاقامة ليُحضر فنجان قهوة فطلبتُ منه أن يحضر لي معه فنجانا كذلك.. فذهب صديقي فوجدها هُناك ترسم وعلى رأسها سماعات كبيرة.. فسألها – ناطقًا – عن القهوة فأشارت عليه بالنّفي محركة أصبُعها وكأنّها تقول له لا تُوجد قهوة وأكملت رسمها.. فعاد وأخبرني بالأمر..

جلسنا تقريبا أربع ساعات هناك وهي تروح وتجيء مركزة في أشغالها حتّى حضر مُرشد الملتقى فرحّب بنا وحينما رأى تلك الرّسامة بدأ يُحدثها بلغة الاشارة وهي تردّ عليه.. وحينما التفت الينا أخبرنا بأنها رسّامة بارعة لكنّها لا تسمع ولا تتكلم.. عجيب!!  

فانطلق سيلٌ من الأسئلة المتتالية في خلدي وكيف فهمتْ وأجابتْ صديقي مُتحدثًا معها عن القهوة قبل ساعات!!؟ ولماذا تلبسُ تلك السّماعات الكبيرة على رأسها!!؟ وماذا كانت تستمع؟؟ الجواب هُو انّها كانت تصنعُ لنفسها طقساً من الطُّقوس التي تجعلُها أكثر انسجامًا مع عالمها.. فسُبحان الله.. أمّا الموقف الثاني الذي لفت انتباهي كان مع أخٍ فاضل من هذه الفئة حينما وقفنا أمام الحافلة التي تُقلّنا من مقر الإقامة إلى مقر أشغال الملتقى فبدأ سائق الحافلة يُساعد هؤلاء ذوي الاعاقة في الركوب فأردتُ أن أساعده فاتجهتُ إلى أحد هؤلاء المعاقين وكان يجلسُ على كرسيه المتحرك.. وحينما دنوتُ منه.. ومددتُ إليه يدي حرّك كرسيهُ قرب نافذة الحافلة ثم قال لي: أمسك بالكُرسي فقط.. لكن شفقتي عليه غلبتني فأصررتُ أن أبحث كيفية حملهِ للحافلة؟! فحينما رأى منّي تلك الشفقة بادية في كلامي ونبرة صوتي وملامح وجهي.. شدّني من تلابيب قميصي وجذبني إليه بقوة.. ثم همس في أذني وقال لي: أمسك بالكرسي وتفرّج..  وكأنه يقول لي (لا تُشفق علي).. فأمسكت بالكرسي فمد يدهُ إلى النافذة ثم ارتقى من خلالها وأخذ مكانه في مقعد بالحافلة.. وأنا ما كان مني إلا أن أطوي الكرسي وأحمله من إلى داخل الحافلة… 

مرّت ساعات قلائل حتى جاء وقت تكريم بعض الناشطين من ذوي الاعاقة في ختام المُلتقى فقال لي أحدُ الناشطين: هل رأيت ذلك الشّخص الذي يُكرّم الآن على المنصّة؟ قلتُ له: نعم فقال لي: هو لاعبُ كرة سلّة محترف وقد أحرز عدّة ألقاب مع المُنتخب الوطني للكراسي المتحركة وعندهُ لقب عربي كذلك.. هُنا قفزتُ بذاكرتي إلى مكتبة الخيالُ لأستحضر ذلك الحوار بيني وبينه وتلك الشّدةُ إليه بقبضة يده..

لا أريدُ الإطناب لأنني التقيتُ من هؤلاء مُلهمين وزارعين للأمل والتفاؤل والايجابية وفي وجوههم وفي مواقفهم وفي قصصهم الكثير ممّا زدتهُ إلى رصيدي المعرفي شهادةً لا غيباً.. 

لذلك أدعو كل الفاعلين والمسؤولين أن يفتحوا لهم الأبواب ويفسحوا لهم الفضاءات ففيهم من المواهب والطاقات والابداعات الكثير الكثير.. ولا يفوتني أن أرسل بتحية الإكبار والتقدير لكلّ من يؤمن بأنّ الإعاقة إعاقة الرّوح لا إعاقة الجسد..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا