مقالاتالتاريخ والآثار

نَزعة جِنسية ولكن خُلُقية

بقلم الكاتبة والباحثة الأثرية :

ندى محمود غريب .

 

كان هيرودوت أول من سعى لعبور الفجوة الزمنية بين تباين المفاهيم فى القرن الخامس ق.م من خلال تسجيل كل ماعرفه عن المصريين فى عصره الذى عاشه وتجميع ماعرفه عن العصور السابقة وترك للقارئ حرية التصديق ، ومن بين كل التفاصيل عن العلاقة الحميمية سجل الفقرة التالية :

 “ينال المصريون راحتهم وإسترخائهم داخل البيوت ، بينما يتناولون وجباتهم فى الطريق ، ويبررون ذلك بأن مالا يليق لابد أن يتم فى خصوصية ، ….. ، المصريون هم أول من إعتبر الممارسات الجنسية تتعارض مع طهارة البدن ، ولذلك نهوا عن ممارسة الجماع فى المعابد ، وألا يدخل أحد المعبد للصلاة إلا بعد أن يُطهر بدنه إذا كان قد مارس الجماع ” ..

ونستنتج من ذلك أن العلاقات الجنسية كانت من الأفعال والأعمال التى تتم داخل البيوت واعتبرها المصريون أفعال تتسم بالخصوصية كما أن ممارستها كانت تعد نجاسة تتعارض مع نقاء وطهارة البدن اللازم توفرها لأى امرئ قبل دخول أى مكان مقدس ، وهو المفهوم ذاته السائد حالياً لدى أحفاد المصريين القدماء الذين إعتنقوا الإسلام ..

نَزعة جِنسية ولكن خُلُقية

كذلك كانت ممارسة الجنس محرمة داخل المعابد منذ زمن موغل فى القدم قبل قدوم هيرودوت ، ويحتوى كتاب الموتى على قائمة بالأفعال التى يُقسم الميت فى الحياة الأخرى أنه لم يقترف أي منها حتى تحكم الآلهة له بالبقاء فى عالم الأبدية  والخلود حيث مملكة أوزير ، فإن ضميره ووازعه الدينى والأخلاقى يجعله يقف فى حضرة الآلهة ويعلن : “.. لم أقترف جريمة الزنى فى المعبد المقدس لإله مدينتى”..

ورغم أن الزنى كان من الأنشطة الجنسية القائمة إلا أن المصريين أدانوه ورفضوه خاصة إذا كان مقترفه متزوجاً ، فإذا زنت مرأة متزوجة كانت تدفع حياتها ثمناً لذلك ، ولكن فى العصرين البطلمى والرومانى كانت تُنبذ بالإنفصال أو الطلاق ..

هيرودوت
نَزعة جِنسية ولكن خُلُقية

اعتبرت المناظر الجنسية من الأشياء المُحرم تصويرها فى الفن المصرى القديم ، والمناظر التى عثر عليها تلك فهى لا تمت بصِلة للحياة الجنسية فى مصر بل هى مناظر صورها بعض عمال المناجم والمحاجر الذين حُرموا من أسرهم ، فكل المناظر الجنسية التى وجدت على الآثار المصرية تتمثل فى منظر جنسى حقيقى مدون على جدار بمقبرة خيتى رقم 17 بمنطقة بنى حسن بالمنيا (وهو منظر خاص بالطقوس السحرية الجنسية) ، والمنظر الآخر مصور على جدار الإيوان الشرقى فى ظهر معبد الدير البحرى الخاص بالملكة حتشبسوت بالأقصر وهو منظر للملكة حتشبسوت ومهندسها سننموت .. ولكن بالرجوع إلى الكتب المتوفرة عن الحياة الجنسية فى العالم القديم سيبدو أن الإغريق والرومان رواد فى وصف الجنس وممارسته كأحد الغرائز البشرية الأساسية ، وقد يكون ذلك حقيقياً فى بعض جوانبه إلا أن هناك شعوباً أقدم مهدت لهم تلك المعارف ، والأدلة المتعلقة بأى جانب من جوانب الحياة فى مصر القديمة توجد فى الغالب على شكل مقتطفات غير مكتملة ، أما المعلومات الخاصة بالحياة الحميمية بين الذكر والأنثى فهى نادرة لحرصهم على ذلك فى الأساس ..

نَزعة جِنسية ولكن خُلُقية

وبالنسبة للشذوذ الجنسى (المثلية) فمن الناحية النظرية لم يكن معروفاً لدى المصرى القديم كثير من أشكال وأنواع المُتع الجنسية باستثناء علاقة الذكر بالأنثى ، إلا أن الوثائق والمصادر القديمة كانت متحفظة جداً حول ماكان يحدث فى مثل هذه الأمور ، وفيما يتعلق بالمثلية الجنسية لاتوجد إلا أمثلة قليلة ، حيث كان إغتصاب الرجل لآخر إغتصاباً جنسياً من الأعمال العدوانية ووسيلة لقهر الخصم وإذلاله ؛ وتوجد فقرة فى كتاب الموتى تتحدث عن ذلك الفعل كفعل كريه لا يجب إقترافه ، كما كانت بكل مدينة قائمة متواجدة بالسلوكيات المُنهَى عن إرتكابها إلا أن بعض الدلائل الجدارية المصورة تظهر شخصين فى موقف حميم ومن الصعب تمييز جنسيهم ، أما المثلية الجنسية بين النساء فكانت نادرة التسجيل ..

هيرودوت
نَزعة جِنسية ولكن خُلُقية

وتتسم الفترة المشهورة فى التاريخ المصرى باسم “فترة العمارنة” بإختفاء الفروق الجسدية بين الذكور والإناث فيما سجلوه من لوحات ، فرجال ونساء الطبقة العليا والبلاط الملكى قلدوا وحاكوا الملك أخناتون والملكة نفرتيتى من خلال إرتداء زياً مماثلاً عبارة عن ثوب فضفاض شفاف يظهر تفاصيل الجسد وقيمه الجمالية ، وبذلك تقاربت صورة الجسد الذكرى من الجسد الأنثوى ..

وعندما نحاول أن نجمع كل الشذرات المتناثرة لنكون صورة عن السلوك الجنسى للمصرين القدماء من ثلاثة آلاف عام ق.م فإننا نصطدم بمعضلة أخرى وهى أن كل الصور والجداريات والبرديات المتعلقة بالجوانب الجنسية والتى أتيح لها البقاء حتى الآن إنتهى بها الأمر إلى التفرق والتشتت بين حائزى المجموعات الآثارية أوفى أدراج وخزائن غير متيسر الوصول إليها فى المتاحف المختلفة ..

وتتراوح المصادر بين تماثيل مباشرة ونقوش جدارية ورسوم ملونة ورسوم تخطيطية تصور تلك العلاقة ، ونصوص منقوشة تصف العواطف والرغبات فى عالم الآلهة والبشر ، حيث كان الإيمان بالبعث والحياة الأخرى الإهتمام الأول لكل المصريين وقد تم تأكيد هذا المفهوم الراسخ فى إعداد الشخص وتهيئته قبل دفنه بدنياً وروحياً طبقاً لذلك المفهوم ، وبنفس المفهوم كان لتوحد الذكر والأنثى فى علاقة حميمة ضرورة لخلق أجيال جديدة ، فحرصوا على أن تُمكن القوة الجنسية الدفينة للميت من توفير القدرة الجنسية له أيضاً فى الحياة الأخرى ، لذلك كان لابد من إعداد المومياء وتزويدها بوسائل تضمن لها بقاء قوتها الجنسية بجانب ضمانات لإثارة الشهوة فى الآخرة وكان ذلك يتضح بصورة أجلى فى إعداد مومياء الذكر لا الأنثى ..

نَزعة جِنسية ولكن خُلُقية

أما بالنسبة للمصادر المكتوبة فهى غير معقدة إلى حد كبير فكانت عبارة عن حكايات تتضمن صراع الآلهة ومغامرات البشر وقصائد حب وعشق كتبت بلغة بسيطة إلا أنها إحتوت على كنايات وإستعارات كثيرة ومعانٍ مزدوجة وموحية عن طريق التلاعب بالكلمات ومعانيها ، بالإضافة لكتب حكمة فيها نصائح للبشر وكيفية المعاملة وكيفية معاملة الإناث على وجه الخصوص ، وتقاويم زمنية تنهى عن إقامة أفعال معينة فى أوقات معينة من السنة ، وكتب أحلام تفسر أحلام النساء والرجال وطقوس سحرية لتحقيق مايتمناه المرء ويأمله ؛ بجانب بعض النصوص الأدبية والتى نذكر منها قصص الملك خوفو مع السحرة وخاصة قصة الكاهن “وبا أونر” والتى إنتهت بعقاب الحرق وإلقاء رماد الجسد فى النهر ، وهذا إن دل فيدل بوضوح على الفناء الأبدى وبالتالى عدم البعث فى الحياة الأخرى والتى كانت من أهم شروطها هو إكتمال الجسد ..

وبقراءة تلك النصوص القديمة وإدراك كيفية محاولة المصريين ضمان خلود قدرتهم الجنسية وبعثها معهم فى الحياة الأخرى بصيغ تخطها الأقلام على أوراق البردى أو بسن الأزميل على صفحات الصخور ، نجد أن الفجوة الزمنية التى تفصلنا عنهم تختفى وتتلاشى ونشعر بتوحد النسق الثقافى والذى نشعر به بحِدّة حين نحاول فهم كيفية وآليات عمل الفكر المصرى القديم ، والذى حاول بنفسه الطيبة الكريمة عدوم الوقوع فى جريمة الزنى الخبيثة .

المصدر :- Sexual Life in Ancient Egypt , By Lise Maniche , Kegan Paul INT , London and New York .

 

إقرأ أيضًا :-

الفراعنة لصوص حضارة !!

معدن السماء “Pi3 m Pt”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا