مقالاتالتاريخ والآثار

ملحمة إيرا الهلاك المنسى

بقلم : عبدالعزيز مصطفى

 

تعد ملحمة إيرا أحد الحكايات الأسطورية فى بلاد مابين النهرين ويعود تاريخها إلى النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد وإيرا هو الإسم الثانى للإله نركال إله العالم السفلى والطاعون والحرب و المعاناة والذى عرف فى مدينة كوثا الأكادية كمعبود داخل أحد معابدها الرئيسية ، وتعد الملحمة أحد الأعمال الأدبية الشعرية المميزة التى ترتبط بتاريخ الغزوات التى تعرضت إليها مدينة بابل العتيقة ، وقد احتلت الملحمة مكانة مميزة فى الأدب الآشورى والبابلى وهى الملحمة الوحيدة التى ذكرت إسم ناظمها فى ذيلها هو (كابت إيلانى مردوخ) كاهن معبد مردوخ فى بابل المعروف أيضاً بإسم (إيساكيلا). الذى يقول فى وصف الملحمة أن الإله مردوخ نفسه ظهر له فى الحلم وأملى عليه القصيدة وأنه لم يضف إليها ولم ينقص منها شيئاً ، ويرتبط تاريخ تنظيمها بتاريخ الغزوات التى تعرضت لها بابل من قبل أقوام السوتو فى تلك الفترة من التاريخ العتيق للحضارة البابلية ..

إيرا والإنتقام من البشر

و قد دارت قصة وأحداث ملحمة إيرا حول إله الطاعون والأوبئة ، الذى كان منكفئًا على نفسه حتى ثار على بنى البشر الذين باتوا فى تزايد مستمر وطلب من الإله مردوخ التنحى عن ملك الالهة البابلية أوامر الآلهة شمش وسين وادد بعدم مساعدة بنى البشر كي ينتقم منهم شر إنتقام ، فأحل عليهم القحط وساد الخراب وبدأ الناس بالمدن والقرى بالقتال فيما بينهم ووصل بنوا البشر الوضع سيء ما سبب تدخل (الإله إيشوم) وهو وزير الإله إيرا بالتوسط عند سيده لرفع معاناة البشر المتزايدة وإزاحة الدمار والخراب عنهم وتحويل الدمار إلى أعداء بلاد بابل ..

و نلاحظ بأن الإله المقصود بالملحمة ليس إله واحد بل إثنان الأول هو “إيرا” إله الحرب المدمرة مندمجة مع “نركال” إله العالم السفلى ، وتبدأ وقائع القصة مع إيقاظ إيرا من نوم طويل لوزيره إيشوم، ثم يتم الضغط على الإله من قبل “مساعديه” الذين هم شياطين أشرار والذين يريدون تعذيب الجنس البشرى . ولكن لتحقيق ذلك، يجب على إيرا طرد “مردوخ” ملك الآلهة ، فيستغل رحيل مردوخ خارج أسوار مدينته فى رحلة إلى والدته أيا فى قصرها فى الهاوية السحيقة وبالفعل ينجح الإله إيرا بزرع الفوضى ودفع سكان بابل إلى الثورة عارمة ثم يقوم بإحراق المدينة كلها وإراقة الدماء قبل أن يذهب إيرا إلى ملك المدينة لحثه على ذبح رعاياه . فيجن جنون الناس ويندبون مردوخ لكن يهدئ غضب إيرا من قبل وزيرة إيشوم، الذى تمكن من إعادته إلى رشده فيعود كل شيء إلى ما كان عليه ، ويرجع مردوخ لمدينته ويستأنف مكانه كملك الآلهة مرة أخرى وبين رحيله وعودته دارت رحا ملحمة تصف معاناة البشر حين غضبت عليهم الآلهة القديمة وحين غاب مردوخ عنهم ..

بلاد مابين النهرين
ملحمة إيرا الهلاك المنسى

و تتكون هذه الملحمة الرائعة من خمسة ألواح وكان أسلوب القصيدة بشكل دعاء على الأرض و قد أستجيب فى وقت محدد بسبب غضب الإله إيرا ووزيره الإلهى إيشوم وانتقامهم من أقوام السوتو بسبب الغارات التى قاموا بها على مدينة الوركاء . يبين لنا اللوح الخامس من الملحمة غضب الإله إيرا الذى سيجعل البعض يقتل البعض من خلال هذه الأسطر: (ليقم البحر ضد البحر، سوبارتو ضد سوبارتو، آشورى ضد آشورى ، عيلامى ضد عيلامى ، كاشى ضد كاشى ، سوتى ضد سوتى ، كوتى ضد كوتى ، و لولوبى ضد لولوبى ، وبلد ضد بلد بيت ضد بيت ، رجل ضد رجل ، وأخ ضد أخ فليقاتل الجميع بلا رحمة ودون هوادة)..

لقد أرسلت و قد كانت هذه الكلمات هى القرار الذى اتخذه إيرا بمثابة إبادة جماعية وكارثة عظيمة ولكنه وحده من يوقف هذه الزوبعة قد أمر وزيره إيشوم ان يضع حدا للنزاع من خلال الحرب فى جبل شار شار (جبل البشرى) ، إذ قال ( اذهب ياإيشوم هناك خطب ما وافعل ماتشاء) انطلق إيشوم إلى الجبل يتبعوه المحاربين السبعة الذين لا مثيل لهم وقد رفع يده ودمر الجبل وسوى شارشار بمستوى الأرض وقطع جذوع غابات الأرز …… و فى نهاية المطاف إعترف إيرا بأن وزيره إيشوم أنقذ العالم من هذا الدمار وقد أمر إيرا بأن تزدهر البلاد من جديد تحت حكم ملك بابل (أضاء وجه إيرا حينما سمعه ، وشعت تقاسيمه مثل النهار دون غيم ، دخل إيشلام واستعاد فيه موضعه ، إذ ذاك أعلن إيشوم بصوت عال هذا الكلام من أجل سكان أكد المشتتين أمر بهذا) وبهذا فقد تمكن إيشوم من تهدئة الإله إيرا بعد إقناعه لذا أعلن ذلك لعودة الناس المشتتين من جراء الحرب إلى مدينتهم أكد مرة أخرى وقد تم إستخدام هذا النص لشرح سبب طغيان العديد من المصائب على مدينة بابل المقدسة مع وجود مقر ملوك أعظم الآلهة فى بداية الألفية الأولى، ولا سيما هجمات القبائل الآرامية على بابل ، وبالتالى تخلى عنها الآلهة وعودة الإله مردوخ تدل على عودة الحياة الطبيعية والهدوء والإزدهار والوفرة ..

و قد احتوت ملحمة إيرا على سطورًا يصف فيها الوزير إيشوم الخراب والدمار الذى حل فى مدينة بابل فضلاً عن ذلك فإن ملحمة إيرا تعد عملاً فنيًا وأدبيًا متكاملاً وأنها أقدم نص فى فلسفة التاريخ . إذ تضمن هذا النص رؤية عن هدف التاريخ وعوامل حركته ودورانه بين النهوض والإنحطاط فالتاريخ عند الملحمة يتحرك (بشكل دورى) من عصر الإزدهار والنهوض إلى مرحلة من التراجع والإنهيار الحضارى الذى يؤدى بدوره إلى إضطراب المعايير وحدوث تخلخل إجتماعى وغزو أجنبى ألا وهو قيام الميديون القادمون من جنوب إيران بعد أن ضعف البابليون بالهجوم على بابل ونهبها وسرقة محتويات المعابد ومنها معبد إيزاكلا الكبير ، حيث قام ملكهم شوتراك ناخونتى بسرقة ما وجده من تحف ومن بينها مسلة حمورابى ، ونقلها إلى عاصمته سوسة . وفى قلب البلاد، فى بابل ، تجمع الناس حول محراب الإله إيرا وقاموا بحرق معبده ، لكن بعد ذلك قامت القوات الملكية بقتلهم . وقام السوتيون (لعلهم الآراميون) باجتياح مدينة أوروك ونهبوا المدينة ، كما هاجموا مدينة سيبار ودمروا سورها العتيد ، وكذلك مدينة دير ، مما سبب فزع الآلهة الأخرى لما حدث ..

وحينذاك هدأ الإله إيرا، وأعطى إلى بابل بركاته و حمايته من جديد ويصور الشاعر ماحل فى بلاد بابل فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد وفى مدينته (التى نرجح أنها سيبار) حيث كانت فيها مدرسة للكهنة الذين يمثلون الطبقة المثقفة فى البلاد إذ كان هناك صراع بين الكاشيين والحثيين على حضارة وتجارة بلاد بابل . وغزا البلاد العيلاميين بقيادة ناخوانا الذى نهب العاصمة بابل ولم تسلم حتى بعض مسلات الملوك البابليين منها مسلة حمورابى ، وتمثال الإله مردوخ إله البلاد يصف الكاهن (كابت) الخراب الذى حل فى بلاده ، ولكن بلغة بسيطة ومؤثرة على النحو التالى: “من لم يمت بالوباء، فإن العدو يدوسه، ( دلالة على أنهم استباحوا البلاد) والذى لم ينبه العدو، فإن الحرامى (في البلاد) سيسرق، والذى لم يسرقه الحرامى، فان أسلحة الملك (الحاكم) سوف تقمعه، والذى لم تقمعه أسلحة الملك، فإن الأمير (الذي يأتى بعده) سيقتله، والذى لم يقتله الأمير، فان إله العاصفة سيمسحه من الأرض، والذى لم تمسحه العاصفة، فإن إبن الإله سوف يرميه بعيدًا، والذي ترك البلاد إلى البرية، فان الرياح ستكنس، والذى دخل بيته، أن الشيطان سيضربه، والذى يصعد إلى مكان عالى فسيموت من العطش، والذى يختبئ فى مكان عميق سيموت من شدة مياه الأمطار، وهكذا،” فإن الأماكن المرتفعة والواطئة كلها، قد دمرت و كانت ملحمة إيرا تصف ما أحدثته الحرب على كونها غضب الإله لا ضعف الحكام و لا زيادة الإضطرابات داخل بابل و أكد فى تلك الفترة من الوقت ليترك لنا أحد أعظم النصوص الأدبية المتكاملة فى التاريخ القديم ..

 

إقرأ أيضًا :-

ملحمة إيتانا والصعود للسماء السابعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا