التاريخ والآثارمقالات

الحملة الصليبية الأخيرة وادى المخازن

بقلم : مصطفى عبدالعزيز

 

لقد عرف التاريخ الإسلامى عدداً من المعارك الفاصلة بين المسلمين المدافعين عن أوطانهم و هى التى كانت نقاط مركزية تحول تاريخ الإسلام نتيجة للآثار الإستراتيجية البعيدة التى تركتها تلك المعارك، حيث كانت بمثابة القسمات على وجه التاريخ، وحفرت معها وقائعها فضلاً عن أسمائها فى الذاكرة الإنسانية . ومن هذه المعارك معركة بلاط الشهداء قرب فرنسا أو لابوتيه التى كانت تحولاً فى مسار الفتوح الإسلامية بأوربا، و قد تراجع العثمانيين أمام أسوار فيينا، ومعركة وادى المخازن من بين تلك المعارك الفاصلة ..

الدولة السعدية و البرتغال

و قد حدثت المعركة بين الدولة السعدية فى المغرب العربى والعثمانيين من جانب، البرتغال والأسبان وفلول المتطوعين المسيحيين الأوربيين من جانب آخر وكان دافع البرتغاليين لخوض هذه المعركة هو إسترداد شواطئ شمال أفريقيا كلها وسحب البساط تدريجيًا من تحت أقدام الإسلام فى تلك المناطق وإرجاعها إلى حظيرة المسيحية، وإحكام السيطرة على طرق التجارة ، خاصة مدخل البحر المتوسط من خلال السيطرة على مضيق جبل طارق ، محاولين فى ذلك إستلهام تجربة حروب الإسترداد التى خاضتها أسبانيا ضد الوجود الإسلامى بها المتوكل ..

على الأسبان والبرتغاليين كانت الدولة السعدية – التى تعود لمحمد النفس الزكية أحد أئمة آل البيت النبوى من نسل الحسين بن علي بن أبى طالب رضى الله عنهما – و تلك الدولة هى التى تسيطر على مراكش (المغرب)، من وقت كان قيامها سنة (923هـ= 1517م) على أساس مجاهدة البرتغاليين، واستطاعت هذه الأسرة أن تحرر الكثير من شواطئ المغرب المطلة على المحيط الأطلنطى – والتى إحتلها الأسبان فى عدة حملات – حيث إستطاعت دخول مراكش سنة (931 هـ= 1525م) ثم فاس فى (961هـ= 1554م) وكان ذلك بداية قيام تلك الدولة التى استمرت حتى العام (1011 هـ=1603م) وعندما توفى عبد الله الغالب السعدى حاكم الدولة السعدية تولى من بعده إبنه محمد المتوكل الحكم سنة (981 هـ=1574م) وعرف عنه القسوة وإتيان المنكرات والفواحش حتى أنه قتل إخوته و لكن لم يكل به الأمر، فانقلب عليه عماه عبد المالك وأحمد واستنجد العثمانيين – الذين كانوا موجودين بالجزائر – فقدم لهما العثمانيون المساعدات العسكرية واستطاع الإنتصار على المتوكل فى معركتين سنة (983 هـ=1576م) واستطاع عبد المالك أن يدخل فاس عاصمة الدولة السعدية ..

التاريخ الإسلامى
الحملة الصليبية الأخيرة وادى المخازن

الطريق إلى معركة وادى المخازن

و بعد دخول عبد الملك إلى العاصمة إستطاع أن يأخذ البيعة لنفسه، وأن يشرع فى تأسيس جيش قوى ضم العرب والبربر وعناصر تركية وأندلسية . ولم تؤد خسارة المتوكل أمام عميه عبد المالك وأحمد إلى أن يرضى بالأمر الواقع فرحل إلى الشواطئ البرتغالية واستنجد بالملك البرتغالى دون سباستيان يساعده فى إسترداد ملكه مقابل أن يمنحه الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسى . واستطاعت المخابرات العثمانية فى الجزائر أن ترصد هذه الإتصالات بين الأمير المتوكل والبرتغاليين ، وبعث حسن باشا أمير أمراء الجزائر برسالة مهمة إلى السلطان العثمانى بصدد هذا الشأن، وكان العثمانيون فى إسطنبول على دراية كاملة بما يجرى فى أوربا فقد كان لديها معلومات عن إتصالات يجريها بابا روما ودوق فرنسا منذ عدة أشهر بهدف جمع جنود وإعداد سفن وتحميلها بمقاتلين لمساعدة البرتغال فى غزوها للشاطئ المغربى، ورصدت المخابرات العثمانية الإتصالات بين ملك البرتغال سباستيان وخاله ملك أسبانيا فيليب الثانى ولكنها لم تستطع أن تقف على حقيقة الإتفاق الذى جرى بينهما، لكن المعلومات التى رصدتها أكدت أن ملك أسبانيا جمع حوالى عشرة آلاف جندى لمساعدة البرتغال فى تأديبه ملك فاس عبد المالك السعدى ..

أما الدولة السعدية فقد استطاعت سفنها أن تلقى القبض على سفارة كان قد أرسلها المتوكل إلى البرتغال تطالبهم بالتدخل لمساعدته فى استرداد ملكه مقابل منحهم الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسى ، ولذا بدأ السعديون يأخذون أهبتهم للحرب القادمة من حيث الإستعدادات الحربية كامله وحشد الجنود على أكمل وجه والإتصالات بالعثمانيين الموجودين فى الجزائر للحصول على دعمهم فى الحرب القادمة ضد البرتغاليين والأسبان ..

سباستيان: إسترداد إسترداد كانت الهوس الدينى مسيطرًا على سباستيان وكان يرغب فى أن يخوض حرب إسترداد مسيحية أخرى فى سواحل الشمال الأفريقى ، ورأى أن تكون حربًا كبيرة لا مجرد غارة خاطفة ، ولذا بدأ مشاورات مع عدد من ملوك وأمراء أوربا وعلى رأسهم خاله فيليب الثانى الذى سمح للمتطوعين الأسبان بالتدفق على الجيش البرتغالى ، وأمده بقوات من جيشه وسفن لنقل القوات إلى الشواطئ المغربية ، وشارك بثلث نفقات الحملة شريطة الإكتفاء بإحتلال ميناء العرائش على المحيط الأطلس وعدم التوغل فى الأراضى المغربية وألا تستمر الحرب أكثر من عام من الزمن كى لا تطول بهم ..

التاريخ الإسلامى
الحملة الصليبية الأخيرة وادى المخازن

الغزو البرتغالى للمغرب

ولقد تدفقت جموع المتطوعين على الجيش البرتغالى من إيطاليا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية، وجمع سباستيان حوالى 18 ألف مقاتل، وكان بالجيش البرتغالى الكثير من المدافع الحديثة والخيالة الذين كانوا عماد الحرب فى تلك الفترة من التاريخ . واختلف فى المجموع الكلى لجيش سباستيان وجموع الأسبان والمتطوعين المسيحيين الذين تدفقوا على هذا الجيش؛ إذ رفع البعض عددهم إلى حوالى 125 ألف مقاتل، وفى تقديرات أخرى 80 ألفًا ، بينما يقول المدققون إنه كان يزيد على 40 ألفًا. وقد ظن البرتغاليون أنهم ذاهبون إلى نزهة على الشواطئ المغربية ؛ حيث أخذوا الأمر باستخفاف شديد؛ فقد كانوا واثقين من انتصارهم السهل، حتى إن الصلبان كانت مُعدة لتعليقها على المساجد المغربية الكبيرة فى فاس ومراكش، بل وضعت تصميمات لتحويل قبلة جامع القرويين الشهير إلى مذبح كنسى، وكانت بعض النساء البرتغاليات من الطبقة الراقية يرغبن في مصاحبة الجيش لمشاهدة المعركة، وكان بعض البرتغاليين يرتدون الثياب المزركشة المبهرة وكأنهم سيحضرون سباقًا أو مهرجانًا ..

الإبحار والخطة والمواجهة أبحرت السفن البرتغالية والأسبانية من ميناء لشبونة فى (19 ربيع ثان 986 هـ= 24 من يونيو 1578م) ورست على شاطئ ميناء أصيلة فاحتلت، وفوجئ سباستيان بأن عدد قوات المتوكل قليل جدًا. بنى السعديون خطتهم للمواجهة على إطالة الفترة التى تبقاها قوات البرتغاليين فى الشاطئ دون التوغل فى الأراضى المغربية؛ حتى يتمكن السعديون من تجميع قواتهم ودفعها إلى المعركة، ثم بدأ السعديون فى محاولة إغراء البرتغال بترك الشواطئ والتوغل فى الأرض المغربية الصحراوية وإرهاقها وإبعادها عن مراكز تموينهم و إمدادهم على شاطئ المحيط ..

نجحت خطة عبد المالك واستطاع أن يغري القوات البرتغالية والأسبانية بالزحف داخل حدود مدن المغرب حتى سهل فسيح يسمى سهل القصر الكبير أو سهل وادى المخازن بالقرب من نهر لوكوس، وكان يوجد جسر وحيد على النهر للعبور إلى الوادى . كانت خطة عبد المالك القتالية أن يجعل القوات البرتغالية تعبر الجسر إلى الوادى ثم تقوم القوات المغربية بنسف هذا الجسر بالكامل لقطع طريق العودة على البرتغاليين، ومن ثمة يكون النهر فى ظهرهم أثناء القتال؛ بحيث لا يجد الجنود البرتغاليون غيره هرعوا إليه عند إشتداد القتال؛ وهو ما يعنى أنهم سيغرقون به نظرًا لما يحملونه من حديد ودروع ..

بدأ القتال وكان شديدًا نظرا للحماسة الدينية التى كانت تسيطر على كلا الطرفين، وأصيب عبد المالك بمرض شديد أقعده فى الفراش، وقيل إن بعض الخدم وضع له سما . وقد زاد ضغط البرتغاليين والأسبان على بعض القوات المغربية فاختلت صفوفها فما كان من عبد المالك إلا أن ركب فرسه وحث جنده على الثبات، لكنه سقط فنقل إلى خيمته وأوصى إن توفاه الله تعالى أن يتم كتمان الخبر حتى الإنتهاء من القتال حتى لا يؤثر ذلك ف معنويات الجنود ، وشاءت إرادة الله تعالى أن يُتوفى عبد المالك، وعمل رجال دولته بوصيته فاكتموا الخبر ..

استمر القتال حوالى أربع ساعات وثلث الساعة وفى أثنائها بدأت بشائر النصر السعيد تلوح فى الأفق القريب للمسلمين فحاول البرتغاليون الهروب من ميدان المعركة والعودة إلى الشاطئ لكنهم وجدوا أن جسر وادى المخازن قد نُسف فألقى الجنود ومعهم سباستيان بأنفسهم فى الماء فمات هو وكثير من جنوده غرقًا، أما الباقون فقد فقتلوا فى ميدان المعركة أو أسروا، أما البقية التى نجت وركبت البحر فقد استطاع حاكم الجزائر حسن باشا وقائده الريس سنان أن يعترض سفنهم وأن يأسر غالبيتهم؛ حيث أسر أكثر 500 شخص ..

معركة الملوك الثلاثة لقى فى هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد المالك وسباستيان والمتوكل؛ ولذا عرفت بمعركة الملوك الثلاثة، وفقدت البرتغال فى هذه الساعات ملكها وجيشها ورجال دولتها، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد فقط فاستغل ملك أسبانيا فيليب الثانى الفرصة وضم إمبراطورية البرتغال إلى تاجه سنة (988 هـ= 1580 م)، وورث أحمد المنصور العرش السعدى فى فاس، وأرسل سفارة إلى السلطان العثمانى يعرض عليه فيها إنضمام دولة لدولة الخلافة العثمانية حتى يضمن حماية العثمانيين له من الأسبان و إلى الأبد ..

 

إقرأ أيضًا :-

ملك مصر و إبراهيم الخليل

الفراعنة لصوص حضارة !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا