التاريخ والآثارمقالات

معدن السماء “Pi3 m Pt”

بقلم الكاتبة والباحثة الأثرية :

ندى محمود غريب .

 

وكما نعلم أن جميع المعادن ذات أصول أرضية أي مصدرها من باطن الأرض – لكن لكل قاعدة شواذ – فالمعدن الذى سوف نتحدث عنه ذو أصول سماوية وليست بأرضية !! هبط من السماء ولم يخرج من باطن الأرض !!

قال الله تعالى ..

بسم الله الرحمن الرحيم

<< وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ >>

صدق الله العظيم

 

نعم إنه الحديد !! وبالرغم من حفظنا لكتاب الله أو من مجرد تلاوتنا له ، لم تستوقفُنا هذه الآية الكريمة ولا أمعنّا التفكير فى هذه المعلومة ، فخامات الحديد كثيرة فى مصر وأقدمها إستخداماً هو خام “الهيماتيت” والذى إستُخدم لصنع التمائم والحلي والخرز منذ عصر ماقبل الأسرات ، ويوجد الحديد بكثرة فى الطبيعة المصرية على هيئة حبيبات صغيرة ضمن بعض الصخور ، ولكن هناك مصدرًا آخر للحديد ألا وهو الشُهب المتساقطة من السماء حيث ينتج عنها قطع صغيرة ومساحيق تحتوى على الحديد وقد استخدموا على نطاق واسع فى مصر ..

كما تم العثور على بعض الأدلة الأثرية والتى توضح إستخدامه منها خرزات من عصر ماقبل الأسرات وبعض عدة أشياء مثل ( خنجر – مساند رأس – نصال – 16 آلة صغيرة ) وجدت ضمن محتويات مقبرة الملك “توت عنخ أمون”؛ ويحتمل أن المصريين القدماء قد إستخدموا فلز الحديد لصنع أدوات وأشياء صغيرة للطقوس الدينية (كأداة طقسة فتح الفم مثلاً) . كذلك وأن بعض مُركبات الحديد الأخرى مثل المغرات والسينا والأمبر قد إستعملت كمواد ملونة وخصوصاً المغرة الحمراء والصفراء ، وأكثر ماتتواجد هذه الخامات فى الصحراء الشرقة وشبه جزيرة سيناء ، على أن المغرات تتواجد بالقرب من أسوان وواحات الصحراء الغربية ..

معدن السماء “Pi3 m Pt”

ولكن هذا كله لم يكن غريباً فالغريب هنا هو أن المصرى القديم علم أن معدن الحديد مصدره ليس الأرض وإنما السماء ومن ثم كان يطلق عليه ” بيا – إم – بت  Pi3 m Pt “ أي معدن السماء ، وامتاز الحديد الشُهبى (السماوى) بإحتوائه على النيكل بنسبة تتراوح بين 5% إلى 26% ، بينما لا يحتوى الحديد الأرضى على النيكل إلا فيما ندر وإذا ماوجد فإن نسبته تكون ضئيلة وهذا العنصر مايكسب الحديد صلابته ..

والواقع أن تحديد العصر الذى بدأ فيه إستعمال الحديد فى مصر بصفة عامة من الموضوعات التى كثر فيها النقاش والتضارب ، ولكن على أية حال فقد تمكن المصريون منذ أقدم العصور من قطع الأحجار الصلدة ونحتها فأنتجوا نحاسًا وبرونزًا مصلدًا بطريقة سرية مدهشة ضاع سر تركيبها وتحضيرها ، فلم يعرفوا الحديد فحسب بل وعرفوا الفولاذ واستخدموه لنفس الغرض ..

معدن السماء
معدن السماء “Pi3 m Pt”

ويعللون عدم العثور على كميات كبيرة من الأدوات والأشياء المصنوعة من الحديد لمعرفتهم بأن هذا الفلز ينتابه الصدأ ويتآكل بسرعة فى التربة الرطبة خاصة إذا ما احتوت على أملاح ، ولكن الحديد لا يصدأ فى الظروف الإعتيادية التى تسود فى المقابر المنحوتة فى الصخر أو تلك التى لم يتسرب إليها الماء ..

والجدير بالذكر أن من يعتقدون بأن الآلات الحديدية قد إستخدمت فى قطع الأحجار فى مصر منذ أقدم العصور التاريخية يعلقون أهمية كبرى على وجود قطعة من الحديد بهرم خوفو الأكبر بالجيزة بين بعض الأحجار ، إذ أنهم يرون فى وجود هذه القطعة دليلاً على أن الآلات الحديدية قد إستعملت فى بناء هذا الهرم ويؤيدون رأيهم هذا بالإشارة إلى ماذكره “هيرودوت” حول هذا الأمر ، ولكن قطعة الحديد هذه لم تكن آلة قاطعة كما أن هيرودوت لم يكن يبحث فى موضوع الآلات التى إستخدمت فى تشييد الهرم الأكبر ولكنه كان يبحث فى تكاليف بنائه  ..

معدن السماء “Pi3 m Pt”

ومن بين القطع الحديدية التى عُثر عليها فى مصر القديمة :-

  • مجموعتان من خرزات أنبوبية الشكل يرجع تاريخهما إلى عصر ماقبل الأسرات قد وجدهما العالِم وينرايت فى الجرزة .
  • قطعة الحديد التى وُجِدت فيما بين أحجار السطح الخارجى لهرم الملك خوفو والتى أشرنا إليها سابقًا .
  • قطعة من أكسيد الحديد يرجع تاريخها إلى عصر الأسرة الرابعة وقد عثر عليها العالِم رايزنر فى معبد الوادى الخاص بالملك منكاورع بالجيزة .
  • عِدة قطع من البلطات عثر عليها العالِم ماسبيرو فى أبوصير وذكر أنها قد ترجع إلى عصر الأسرة السادسة .
  • كتلة من صدأ الحديد عثر عليها العالِم بترى بجانب عِدة مطارق من النحاس ترجع إلى عصر الأسرة السادسة والتى يُرجح أنها كانت فى الأصل آلة .
  • تميمة صغيرة على شكل علامة بسشكاف عثر عليها بالدير البحرى وترجع إلى عصر الأسرة الحادية عشرة ، وعند تحليلها وجد أنها تحتوى على 10% من النيكل ولذا فإن حديد هذه التميمة شُهبى المصدر .
  • عِدة قطع من الحديد وجدت بمقبرة الملك توت عنخ أمون والتى أشرنا إليها سابقًا .
معدن السماء
معدن السماء “Pi3 m Pt”

ولا بد أن نذكر أن الحديد كان نادر الوجود فى سوريا وفلسطين حتى نهاية الأسرة الثامنة عشرة على الأقل ، إذ لم يرد ذكره ضمن كشوف الجزية التى كانت مصر تجيبها من الشعوب المغلوبة إلا فى تلك الحالات الثلاث :-

  1. أوانى من الحديد أرسلت للملك تحتمس الثالث من تيناى (وهى مملكة غير معروفة شمال مصر) .
  2. أشياء أهداها توسراتا ملك ميتانى إلى الملك أمنحتب الثالث .
  3. عشرة خواتم من الحديد المُغَشى بالذهب أهداها ملك توسراتا إلى الملك أمنحتب الرابع .

وأقدم أدلة معروفة حتى الآن عن إستخراج الحديد من خاماته فى مصر هى الأدلة التى وجدها العالِم بترى خاصة بصهر هذه الخامات فى بلدة نقراش شمال غرب الدلتا ، ويرجع تاريخ ذلك إلى القرن السادس قبل الميلاد . وعلى الرغم من أن خامات الحديد فى الطبيعة أكثر توافرًا من خامات النحاس ، وأنهما متقاربان فى سهولة الصهر ، إلا أنه عَرف الإنسان الحديد بعد معرفته النحاس بمُدة طويلة جدًا ، ويُرجح أن يكون السبب الرئيسى لهذا التأخير هو إمكان تشكيل النحاس بالطرق وهو بارد بينما لا يتم هذا فى الحديد إلا وهو ساخن .

 

المصادر :-

– أ.د/عبدالحميد عزب ، دراسات فى الآثار المصرية القديمة (الجزء الثانى) الفنون الصغرى ، طنطا 2020 .

– ألفريد لوكاس ، المواد والصناعات عند قدماء المصريين ، ترجمة/ زكى إسكندر- محمد غنيم ، القاهرة 1991 .

 

إقرأ أيضًا :-

نظم ومعايير فصل الشتاء عند المصريين القدماء

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الثامن والأخير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا