التاريخ والآثار

أول ثورة مصرية فى التاريخ.

بقلم الأثرية: أماني حمام زغلول

ماهى أول ثورة فى التاريخ المصري؟ ولماذا سميت بثورة الجياع؟

دائما مايقال أن شعب مصر مسالم، فهذا وصف لايتفق مع الواقع فشعب مصر على الأصح صبور فالمسالم لايرضى بالذل ولا يسكت على العار، ولقد أثبتت الأحداث التاريخية كلها أن مصر صبرت كثيراً على كل ما حل بها من كوارث ولكنها كانت دائماً تتلمس طريق النجاة وتعد العدة للخلاص بوسيلة واحدة لاتتغير مع الزمن وهى الثورة ضد الظلم والقهر مهما تغيرت أشكاله وأنماطه.

شهد المجتمع المصرى القديم على مايبدو ثورة أو انتفاضه إجتماعية عنيفة في أواخر عصر الدولة القديمة وبداية عصر الأضمحلال الأول فى القرن الثانى والعشرين قبل الميلاد (بين نهاية الأسرة السادسة وبداية الأسرة السابعة) حيث كانت هذه الثورة نتيجة مباشرة للأوضاع المتردية التى سادت البلاد خلال فترة حكم الملك بيبي الثانى أخر الملوك الفعليين فى الأسرة السادسة الذى ورث الحكم وهو طفلا، فسانده اثنان خاله وأمه ويحتمل أن يكون حكم أكثر من تسعين عام وهى أطول مدة حكمها ملك مصري قديم ..

 

لكن ماهى طبيعة هذه الإنتفاضة؟ وماهى أبرز أحدثها؟وكيف انعكست على وعى الشعب المصرى ومستقبله؟ هذا ما سنحاول أن نتحدث عنه ..

استطاع الباحثون تحديد ملاح هذه الإنتفاضه من خلال تحليل بعض النصوص التاريخية التى أشارت إلى ثورة اجتماعية مصرية طالت قدسية الحاكم والآلهه رافقتها فوضى عارمة في المملكة، كما اعتمد المؤرخون على نصوص أدبية أشارات إلى مجريات هذه الثورة أو أحداث هذه الفترة الغير مألوفة، أبرز هذه النصوص ماكتبه حكيم مصري يدعي إيبور “أو إبو العجوز” وهذا الحكيم عاش في أواخر عهد بيبى الثانى أو في عهد أحد خلفائه الضعاف وكان هذا الحكيم ذا صلة بمناصب الدلتا، وأنه نجح في أن يوصل صوته إلى أهل البلاط، وربما نجح في مقابلة الفرعون نفسه، وحاول أن يحمله هو وحكومته تبعة ما انتهت إليه أحوال البلاد من ضعف وانهيار ..

أول ثورة مصرية فى التاريخ.

أسباب الثورة:

سارت أحوال البلاد فى أوائل عهد بيبي الثاني على النهج العادى الذى صارت عليه فى عهود أسلافه، وذلك من حيث النشاط الداخلى والخارجي ومن حيث الثراء الملكى من جهة ثم من حيث ازياد سلطات حكام الأقاليم واتساع ثرواتهم وثروات رجال البلاط من جهة أخرى، وميليهم جمعيا فى التحرر فى العادات وسبل الحياة؛ ولكن الأمر المختلف هو ازدياد سلطات حكام الأقاليم فبدأو يتجرأو على أن يُخطتو لأنفسهم سياسة ضيقة ينشغلون فيها بأنفسهم وبتوطيد سلطانهم فى أقاليمهم؛ مما أدى إلى الإنصراف عن رعاية مصلحة الدولة في مجمعوها والصالح العام ككل، وعن مراعاة حقوق الحكومة المركزية فى العاصمة ثم تبدل حال الحكومة المركزية وحال حكام الأقاليم وزاد أكثر سوءاً فى العهود الاخيرة من الأسرة السادسة,وتضخمت العيوب بوجه خاص منذ أواخر عهد بيبي الثاني حين طال حكمه واستبدت به شيخوخته فدب الضعف في حكومته وقلت هيبتها وبدأ الزمام ينفلت من يدها، وكان حكام الأقاليم قد مضوا فى طريقهم فزاد استمساكهم في توريث مناصبهم لأبنائهم واعتبروه حقا مكتسبا لهم وليس مجرد منحة من ملوكهم ..
وجعلو منصب والى الجنوب الذى ابتدعته الحكومة المركزية للإشراف على مصالحها فى الصعيد والإشراف على سياسة حكامه، منصبا غير ذى موضوع بعد أن انتحله نفر منهم لأنفسهم في وقت واحد، ومنع بعض حكام الصعيد القصى عن حكومة الدولة من نصيبها من موارد الأقاليم فأصبحت شبه عاجزة عن تنفيذ أوامرها وممارسة تبعاتها وحقوقها، فأخذت ظواهر السخط تتجمع ضدها واستعدت بعض طوائف الشعب للثورة عليها وعلى أوضاع الحياة كلها لاسيما بعد أن عاث الجنود المرتزقة الذين استعانت بهم فى جيشها فساداً في الأرض دون خشية منها، ولم يأتى الخطر على الدولة حينذاك من الظروف الداخلية وحدها وإنما داهمها كذلك من خارج حدودها فتجددت أخطار الهجرات الأمورية بعد أن كانت قد خفت حدتها وانكسرت شرها مؤقتاً، وتجرأ بدو سيناء وبدو فلسطين على حدود الدولة وهددو أمن سبل تجارتها مع بقية بلاد الشام وحرموها بذلك كثيراً من دخوا التجارة وضرائبها ثم تسرب بعضهم إلى أراضي الدلتا وقراها وحاولوا الإستقرار فيها، وعجزت الحكومة القائمة عن تأديبهم وإلزامهم حدود الطاعة لها ..

 

أحداث الثورة:

يصف الحكيم “إيبور” أنه قامت ثورة عنيفة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي اشتد فسادها في أواخر أيام بيبي الثاني .. ويفهم حديثه أنها بدأت من العاصمة وأنه صاحبها فى بدايتها شيء من العنف ورغبة التنفيث والانتقام، فنزع الثوار عن ملكيتهم القائمة ماتبقى لها من قداسة شكلية، وأباحوا لأنفسهم أن يتقاسموا أملاكها ومواردها وأملاك أنصارها، وقلبوا أوضاع العاصمة رأساً على عقب واقتحمو داووينها ومزقو وثائقها، وانقلبت العاصمة فى ساعة، وانكشفت أسرار ملكية الصعيد والدلتا .. وجرى بعض أهل الأقاليم مجرى أهل العاصمة فهاجمو المتسيطرين عليهم وقالت كل مدينة دعونا نقصي العتاه من بيننا، ولم تقتصر حملات الناقمين على الأثرياء الأحياء وحدهم، وإنما امتدت كذلك إلى مقابر الأثرياء الموتى الذين نعموا فى دنياهم لما لم ينعمو به سواهم .. ثم رصدو على أهرامهم ومقابرهم ومعابدهم من الخيرات والأوقاف ما كان الأحياء من أفراد الشعب أولى بمثله ..

أول ثورة مصرية فى التاريخ.

نتائج الثورة:

يبدو على الرغم من السوءات التى صاحبت تلك الثورة في بدايتها ترتبت عليها نتائج أخرى حسنة صور الحكيم “إيبور”بعضها وكانت أوضحها هى: أنه استثارت نوعا من الوعي القومي لدى المفكرين الذين عز عليهم عجزهم عن دفع البلاء عن وطنهم قبل وقوعه وعز عليهم أنهم لم ينشطو للتصرف عند ظهور بوادر الخطر ولم يتلافوها، وصعب عليهم أن تنتهك حرمات البلاد وتبتذل مقدساتها الدينية والتقليدية تحت أبصارهم وأسماعهم سواء بأيدى المهاجرين أم بأيدى المواطنين الموتورين ..
وترتب أيضا على الثورة أنها دفعت المفكرين إلى تخيل صورة واضحة للحاكم الصالح الذى يتمناه وطنهم بعد أن جرب الحكم المطلق طوال العصور السابقة وجرب بعده سيطرة العوام ..
وعبر إيبورعن هذه الصورة المرجوه وهو يخاطب أهل الحاشية فوصف لهم الحاكم المنتظر بأنه: من يعمل للبناء ولا يفرق بين جريء وهياب وصوره رجلاً يستطيع أن يحيل اللهب برداً وسلاماً، ويمكن أن يعتبره قومه راعيا للناس أجمعين ليس في قلبه ضغينة .. وإذا تفرقت راعيته قضى يومه يجمعها. وترتب أيضا على الثورة بعد أن هدأت وقر قرارها فهى نشأت طبقات جديدة لم تعتز بالحسب والنسب بقدر ما تمجد العصاميه ويعتز الفرد منها فى نصوصه بأنه مواطن قادر يتكلم بفمه”أى يتكلم بوحى نفسه وليس بايعاز من غيره .. ويفخر بأنه يعمل بساعده ويحرث بمواشيه ويتنقل بقاربه “أى يعتمد فى عمله وحله وترحاله على ماتملكه يداه وليس على مايمتلكه سواه.
فقد كان من مبادىء الثورة أن نادت بحقوق الأفراد وبالعدالة الأجتماعية .. فأصبح بذلك الملك راعياً لشعبه مهماً بمصالحه وخلاصة القول أن الملك كان قبل الثورة معبوداً أكثر منه إنساناً فأصبح بعدها إنساناً أكثر مما هو معبوداً وبذلك أدت الدعوة إلى العدالة الاجتماعية إلى ارتفاع شأن الشعب ..
الغموض: طال تطلع المصريين فى أواخر الدولة القديمة إلى ملك صالح يرعى البلد جميعها ويسوس الحكام والمحكومين ويلزمهم جادة الصواب .. فبدأ الشك يتسلل إل نفوس المصريين في نهاية الدولة القديمة فلم يعد الناس يؤمنون بما كانو يؤمنون به من قبل بل أمنعو النظر فى كل ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من عرف وتقاليد دينية ودنيوية ولم لا ؟ فالإنسان يرى أن ما أعتقد به من قبل سبيل الخلود أصبح ينهار أمام عينيه وبين يديه وبذلك تغير الفكر المصري وظهرت فلسفة جديدة تنادى بأن الثورة والجاه والأهرام الشاهقة والقبور المزخرفة والتماثيل الشامخة وما يقدم لأصحابها من قرابين وأضحيات, وما يقام عندها من طقوس وصلوات .. لا يضمن للناس الوصول إلى الجنة ولا يتيح لهم التمتع بنعيمها الدائم وظلها المقيم ولكن الفضيلة والخلق الكريم هما اللذان يكفلان لصحابهما الشفاعة يوم الحساب ويدخلانه الجنة .. ومن وجهة نظرى هذه فلسفة جديدة لدى المصريين القدماء للتأمل الذاتى والتفكير السليم ..
ومن الممكن القول أن طرأ على المجتمع المصرى تغير فى أواخر الدولة القديمة أفقدها حريتها وأوقعها ما بين التضليل والجهل وغيبها عن إيقاع الحياة وسقط نظام الحكم وتعطل القضاء وتغيب كل ماهو متعارف عليه وتبدلت مشاعر كل الناس فغلظت بعد رقة وتكدرت بعد صفو واضطربت بعد هدوء واطمئنان وأصبح المجتمع يحكم بغير تشريعه ويساس بغير إرادته.
وفي النهاية يمكننا أن نقول أن هذه الثورة تشابهت مع الثورات التالية لها عبر العصور بل أخذت منها .. فنجد المواقف المتكرره التي تؤكد على أن الشعب المصرى لم يتغير بل تعامل مع الثورة منذ الحضارة الفرعونية مثلما تعامل معها الآن فى العصر الحديث.

مصادر:

نيقولا جريمال تاريخ مصر القديمة، ترجمة ماهر جويجاتى
أحمد أمين سليم النظم السياسية عبر العصور.
– المراجعة اللغوية: ناريمان حامد.

إقرأ أيضًا:-

فن الكاريكاتير في مصر القديمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا