رؤية وابداع

قلبٌ و ورقة .. قصة قصيرة ج1

بقلم : أحمد فوزي

 

تعمد الشمس أُفقيًا حيثُّ السحاب الذي أغمض جفنها استسلم لها ، فأشرقت الشمس على رحيق الورد و موج البحر و نسيم النرجس و رؤوس الخلق .

ينام معتصم الذي انقلبت فيه فطرة الخالق ؛ ليله نهاره و صبحه دجاه.
ينام و دمع العين يرقرق ذابحًا خداه ؛ يتعجب كيف لماء البُكاء ينحر وجنة الباكي و لكن بالبديهة علم الجواب .
و لكن في ذلك الوقت الذي لا يريد فيه العلم و لا التفكر نام نومًا عميقًا .

و آيان نُعاسه يستعيد ذاكرة أعوامًا قد مضت .
دخل الكلية و في خُلده طالب جامعي تتجمع فيه نعوت الصلاح و شيم الكمال .
إذ إن طويلب العلم هو مجاهدٌ لا يتهاون في جهاده .
لا وقت للحب ، لا وقت للهو ، لا وقت للصداقة ،
إنما الكتاب هو الحبيب و السمير و الصديق .
و على ذلك فإن لا دقيقة ضائعة حتى يأرب ما يبتغِ

لكن الحقيقة غير ما أراد معتصم .
ما لبث في الجامعة أسابيعًا إلا و دقَّ قلبه بفتاة و صادق أصدقاءً شتّىٰ و لهىٰ لهوًا كثيرًا و نسيَّ الحبيب و الصديق و السمير الحقيقي ؛ الكتاب .

فأمَّا الأولى أخرجت من طبعه البربري شاعريٌ رقيق يرهف فؤاده من خُطى الحبيب .
ظلَّ يحفظ كل منظوم قيل عن الحب و ما إن يقابلها يتلو عليها شعر عنترة و جرير و قيس و نزار .

قلبٌ و ورقة .. قصة قصيرة ج1
قلبٌ و ورقة .. قصة قصيرة ج1

 

شعره القصير طال و وجه الأصفر احمر و ريحه الرتيب تعطر كأنه ليس معتصم القديم .
و لكنه تلك الفتاة التي ظن أنها ليلى أو عبلة أو بلقيس كانت لعوبًا ؛ امتصت دماء هيامه و أسقطته في اليَّم مثل أم موسى تركته : ” كعِطر وردةٌ تكادُ أنْ تموت ”

و أمَّا أصدقاؤه فكانت الغلبة لهم .
فما هو إن ترك بلدته إلا و يتقرَّب من كل غريب و قريب .
ظنه الساذج دعاه أن في كل أولئك الصحوب الوفي دون العلم بمقالب الأمور .
فكان ممن صاحبهم الذي يتسم بحب الظهور و هو من يتناحر مي يلفت الانتباه .
و منهم من أراد منه مصلحة ابتغى القرب لأجلها .
و منهم من مدحه و تفاخر بصداقة معتصم و حين الخلوة يهجوه و ينعته بالسب وراء ظهره .

و أما اللَّهو .
كانت حسنته الوحيدة بين خطاياه .
فهو يلهو مع كتاب و يلعب مع ديوان و بين فينة و فينة تعايش بين سطر الرواية و شطر الشعر .
فلا يكاد يخرج للناس إلا و عقله مُبرمجٌ على أن العالمين سطرٌ مفقود من كتاب .

لكن ذاك السطر طلاسمٌ مُعجّزة لا يستطيع فكها .

يخرج معتصم من حبيب لعوب و أخلةٍ متخاذلين و لهو مستحب ؛ لم يكسب منهم شيئًا .
يخرج شخصًا آخر أقسم أن يتخذ أمره جِدًا غير هازل .

فما إن تبدء دراسته و المقررات إلا و هو الدارس و القارئ لما دُرس أو لا ؛ جعل المقرر الدراسي المُكلف به مجرد مقدمة صغيرة لموسوعة علمية يجب أن يستغرق مناهجها ، بل يجب أن يبني منهجه الخاص من أفكار و كتب و مراجع وظيفته العلم أعظم من كونه طالبًا ينتظر جواب الامتحان و أن تعظيم دوره متوقف فقط كونه ممتحَن .

قلبٌ و ورقة .. قصة قصيرة ج1
قلبٌ و ورقة .. قصة قصيرة ج1

 

و يخوض السنين الأربعة بطابع شغوف شاهٍ للعلم متطلع لمستقبل عظيم .
لكن تقديراته لم تكن مساوية لمجهوده الكثيف ،
فتارةً يصيب في درجاته و تارة لا .
و هو على ذلك الحال ؛ الحال الذي حيَّر فيه أساتذه من جهة ، و زملاؤه من جهة أُخرى .
الحقيقة أن معتصم لم يُرزق حسن الخط و قبلها عدم التنظيم و قبلها الفوضوية و قبلهم جميعًا تراكم الأفكار التي تضرب عقله في كل دقيقة مارة .

و لكن على الأقل بدء خطوة حاسمة أن يتخلى عن ذكرياته مع حبيبته و أصدقائه .

و جاءت السنة الآخيرة من عامه الجامعي ؛ في هذا العام استوت عقليته و نضج فكره و تحسَّن فيما كان يُعيبه .
و في الربع الأخير من السنة الدراسي و بعد مجهود علمي جبار فاق من يعلوه مكانة و منزلة من معيدين و باحثين ، إذ على يمنيه كتاب يتدارسه ، يتلقَ هاتفًا من البيت
يقول :
معتصم ، مات أبوك .

لمتابعة الجزء الثاني من هنا 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا