رؤية وابداع

الشخصية الإنهزامية والواقع قراءة للناقدة السورية / كنانة عيسى في نص ” الأستاذ” للكاتبة / أمل منشاوي

أمل منشاوي

تشرق الشمس كعادتها كل صباح من بين أوراق أشجار حديقة جاري الذي يتفنن في إيذائي _ دون قصد_ لكنه ما زال يبجلني، يرسل لي كل يوم يطلب مني التنازل عن بيتي العتيق الملاصق لسور حديقته، يقول أنه يخشى أن ينهدم فوق رأسي، هو يحبني .. لا أشك في ذلك، ولكن في الحقيقة أنا لا أعلم كيف سمح لسور حديقته أن يلاصق جدران بيتي! بل إن جدار بيتي أصبح جزء من سور حديقته!.

 

لا أهتم لرسائله، ولا أهتم لتلميحاته، ولا أهتم لذلك السور الذي أصبح جدار بيتي جزء منه، كل ما أهتم له هو ذلك الولد الذي لا يقف لي احتراما عند دخولي إلى الفصل، في البداية ظننت أن الولد قعيد لا يستطيع الوقوف، ولكن نظرته المستهزئة أربكتني، وعندما رأيته يمر من الشارع الذي تطل عليه نافذة حجرتي علمت أنه صحيح البدن.

 

جاري وضع حاجزًا على باب بيتي فلم أستطع الدخول، أصبحت أقفز من النافذة، لم أشأ أن أعاتبه وقد أرسل لي في الليلة السابقة لذلك ثمن دواء لزوجتي المريضة وقال أنه هدية، جاري رجل كريم يحب أعمال الخير، وفوق ذلك يحترمني ولا يناديني إلا بالأستاذ، ولكن .. ما بال هذا الولد لا يفعل!.

ولدان آخران لم يقفا احترامًا لدخولي، لا يهم … ثلاثة أولاد من بين خمسين عدد قليل، لن أهتم لأمرهم ولن أبدي انزعاجي حتى لا يتمادون في أفعالهم، حتى تلك الأوراق التي تلقى على رأسي من الخلف، لن أفتحها، لن أهتم بما هو مكتوب فيها، سأكتب التاريخ والعنوان، وسأكتب عناصر الدرس على يمين السبورة كما اعتدت كل يوم، سأبدأ درسي ببيت الشعر القائل

 

” قم للمعلم وفّه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا”

 

جارِ هدم جزء من الجدار، اعتذر طويلا، الأمر لم يكن بقصد منه، جذور شجرته العملاقة تخللت أساس جدراني المتهالكة فهدمته، وعدني أنه سيبني لي جدارا آخر، جاري لا يخلف وعدًا أبدًا، بنى الجدار ولكن بيتي نقصت منه غرفة، لا يهم .. ما دام الجدار الجديد بعيدا عن جذور الأشجار العملاقة.

 

ما زلت أقفز من النافذة، وما زالت جذور الأشجار العملاقة تغزو جدران بيتي، وما زالت حجراتي تتناقص، وما زال الأولاد لا يقفون تبجيلًا… ولكن لا يهم… فما زال جاري لا يناديني إلا (بالأستاذ ..).

#أمل المنشاوي نوفمبر ٢٠٢١

……………

القراءة

 

يبدو النص للوهلة الأولى السهل الممتنع الانسيابي الواضح، بلغته البسيطة و وسارده المتردد المهزوم الذي يناجي جمهورًا غائبًا افتراضيًّا؛ قصًا متراكبًا، يذكرنا بالمسرح الميلودرامي الكلاسيكي؛ حيث نكاد نرى البطل متمركزًا في قوقعة ذاتية يطلق منها آراءه و خيباته وأحكامه التي تفتقد للمصداقية والمنطق أمام (الجار)، وأمام (المجتمع) وأمام ذاته؛ كمعلم فقد قيمة دوره التربوي والتعليمي والأهم قيمته ومساحة وجوده المؤثرة كإنسان أيضًا.

 

شخصية منكسرة تبرر ضعفها وتنازلها عن حقوقها في تركبية غير متوازنة. فكأننا نرى صراعًا وهميًّا لشخصيتين في جسد واحد، (شخصية معاصرة، وشخصية تاريخية) كما في شخصية عطيل، في مسرح “شكسبير” الشهير، إذ تبرز شخصية البطل المأساوي في السرد كما شخصية “عطيل” نفسه؛ وهو الشخصية المحورية النبيلة التي لا تعلم عن قدرها المأساوي القادم، ولا كيف ستدمرها ثقتها الشديدة بالآخرين، ولا طيبتها المضطربة المميتة، أمام شر قاهر لشخصية “ياغو” والذي سوف يقودها في النهاية إلى حتفها التراجيدي المؤلم. .

 

لعل الرؤية الميلودرامية للسرد على شكل مناجاة فردية تبرر المشهد المتأزم وتقطّعه في لقطات قصيرة، اكتنزت رموزًا بسيطة مألوفة ،أرادتها الكاتبة كنوع من استخدام النمط لدحض أفق التوقعات، لدى القارئ النمطي.

 

فـ (الجار) هو الملاذ ورمز المحبة و العطاء، وهنا اتخذ صفة المستغل المحتل الذي يستخدم عذوبة الكلام للهيمنة على عقل السارد المستكين، (و الجدار) هو رمز الانغلاق والعزل والتقوقع و لكنه في السرد رمز لفقدان ماهية الذات الإنسانية وخصوصيتها، و لقب (الأستاذ) مفردة لغوية دالة علي قيمة الفرد واحترامه لشخصه وقد اتخذت في السرد نكهة ساخرة أدت مفعولها العكسي من تهكم واستفزاز وسخرية، و(الشجرة) رمز العطاء والخصوبة والحياة وقد حولها السرد لرمز تفشي الاستغلال والاحتلال والتعدي على حقوق الآخر، و(النافذة) وهي رمز الحرية والانعتاق والتغيير، بينما غير السرد إسقاط المعنى في سياقه نحو معنى مختلف يختصر جبن الشخصية الساردة واعتقالها في حدود شخصيتها المنكوبة بالخيبات والانكسارات. فهو يواسي نفسه بقبول الفتات؛ (دواء زوجته، غرف بيته الآخذة بالتقلص)، ويغض بصره عن تجاوزات (جاره) المهينة

والقاهرة.

 

تأتي النهاية المميزة كبصمة قاصمة لترك انطباع نهائي عن شخصية السارد المفككة التي تتعاقب عليها أدواره في الحياة في فشل متكرر، فتتناقص مساحة وجوده وتأثيره في الحياة أمام استغلال الآخر وتهميشه وقمعه وفرض سيطرته مقابل وهم واحد وكذبة واحدة، حين يكون الآخر جارًا حقودًا أو مستغلًا وقحًا أو محتلًا غاشمًا.

 

Kinana Eissa 24novamber2021

إقرأ أيضاً:

وقف الرسول

وحيدة أنا

هذي أنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا