التاريخ والآثار

حجاج الخضري صاحب الثورة المنسية

بقلم: عبدالعزيز مصطفى.

ظل الشعب المصري ينظر نظرة خوف ورهبة إلى الحكم المملوكي الجاثم على صدر مصر لقرون حتى وبعد انكسار سلطانهم الأخير طومان باي واعدامه على أبواب القاهرة، وظل المصريين خارج صراعات المماليك وقتلهم لبعضهم البعض واعتبر المصرين ذلك شأن داخلي لايعنيهم وظلت تلك النظرة لا تتغير حتى شهد الشعب المصري بنفسه انكسار المماليك وهزيمتهم وفرارهم من أمام الفرنسيين 1798م، وأدرك المصريون أنهم يستطيعون تحمل مسؤولية القتال، واختبروا أنفسهم في ثورتي القاهرة الأولى والثانية، والتي استطاعوا خلالهما تكبيد المحتل الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت أفدح الخسائر، كما بزغ نجم أبطال عديدين، سيشكلون تاريخ البلاد في مقبل الأيام، وعلى رأسهم الثائر حجاج الخضري، شيخ الطريقة الخضرية، الذي استطاع تحريك الجموع الهادرة، ونجح بفطنته واستعداده الفطري للقيادة في تكوين جيش شعبي يتولى قيادة فصائلة شيوخ الحرف والطوائف، مثل إسماعيل جودة وابن شمعه، وكانت السنوات الثلاث التي قضاها الفرنسيون في مصر (1798 – 1801) بمنزله فترة الإعداد التي تمكن فيها المصريون من اختبار قدراتهم والتدريب على الدفاع عن بلادهم والانتصار لكرامتهم، دون الحاجة إلى جنود مرتزقة أو بقايا المماليك.

(مصر ما بعد جلاء الفرنسيين)

 

وفور جلاء الفرنسيين أرسل الباب العالي واليًا جديدًا، وتأهب الأمراء المماليك للعودة مرة أخرى لسابق عهدهم، بعدما أصبحوا فريقين متناحرين، يقود الفريق الأول البرديسي الذي أسرع لتقديم فروض الولاء والطاعة للوالي الجديد، وظل الفريق الآخر بقيادة الألفي يتحين الفرصة للانقضاض على الحكم. لكن ما حدث بعد ذلك كان على عكس ما رتب له الجميع فقد بدأ المصرين بالتمسك بحلم تحرير مصر قبل أن يراود ذلك الحلم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ورفاقة كالرئيس الراحل محمد أنور السادات والرئيس الراحل محمد نجيب وغيرهم من اعضاء مجلس قيادة الثورة بقرن ونص من الزمان ..

نعم راود حلم تحرير مصر من العثمانيين يحتل عقل وقلب الثوار، الذين حملوا أرواحهم فوق أكفهم من قبل في مواجهة الفرنسيين، وأعلن حجاج الخضري أنه من العبث أن نضحي بأرواحنا كي نسلم البلاد مرة أخرى للأتراك ولوكلائهم من المماليك. لكن الخلاف الذي كان محتدمًا وسط معسكر الطليعة المثقفة، عمر مكرم والشرقاوي والسادات والدواخلي وغيرهم حال دون ذلك. ومما زاد حنق المصريين، أن الجنود الأتراك رجعوا أكثر نهمًا للسلب والنهب؛ كأنهم يريدون تعويض مافاتهم من مكاسب وغنائم حرموا منها بسبب وجود الفرنسيين.

ولم يكن الثوار، وعلى رأسهم حجاج الخضري، هم من يرغبون وحدهم في كسر شوكة المماليك و غيرهم، لكنّ مغامرًا ألبانيًّا اسمه محمد علي اتي كضابط في الجيش العثماني، الذي جاء ضمن قوات الوالي التركي في حربه مع الفرنسيين، عرف أهمية مصر فشب بداخله حلم امتلاكها وفصلها عن الباب العالي، لتكون طعمة له ولأبنائه من بعده، فتقرب للمشايخ والعلماء وكبار التجار، وكسب ود شيوخ الحرف والطوائف، واستطاع كسب ثقة واحد من أهم قادة المصريين وهو نقيب الأشراف، الذي كان محمد على يقبل يده قائلاً: أبانا الجليل عمر مكرم.

ومنذ خروج الفرنسيين من مصر 1801م جرت في النهر مياه كثيرة، وتتابع على حكم البلاد أكثر من والٍ، منهم من لم يستمر سوى عدة أشهر ومنهم من لم يمكِّنه الجند من الوصول إلى القلعة، ومنهم من قُتِل في الطريق، مثل علي باشا الطرابلسي، الذي قُتِل ناحية قليوب، ويذهب بعض الروايات إلى تورط محمد علي نفسه في قتله.

كل ذلك والحالة الأمنية في البلاد تزداد تدهورًا، كما يزداد خطر الأمراء المماليك، خاصة الألفي، كما ازداد خطر العربان والمنسر وبات الجميع في خطر شديد، وازداد الشقاق وسط الطليعة المثقفة حتى بلغ الأمر إلى صراعهم على تولي نظارة مسجد ووقف الإمام الشافعي، طمعًا في ما يدره من أموال!

وسط ذلك كله، كان لحجاج الخضري حٌلم خاص بأن يحكم مصر أبناؤها، وعلى الرغم من تجمع مختلف طوائف الشعب -التواقة للتحرر من عسف الأتراك والمماليك وتنسم هواء الحرية- حوله فإن المشايخ والعلماء جابهوا ذلك بالرفض، متعللين بضرورة طاعة الباب العالي (ولي الأمر)!

ولم يكد أحمد باشا خورشيد أو خورشيد باشا يصل إلى مصر واليًا عليها بفرمان سلطاني، حتى بدأ القضاء على أية قوة يمكنها أن تهدد وجوده، وأسرع في فرض المزيد من الضرائب الجائرة، وأطلق لجنوده العنان في استخدام مختلف أشكال القوة في تحصيل هذه الضرائب.

(إعلان حجاج الخضري الثورة)

مع زيادة الضرائب ضج الناس والأهالي بالشكوى ولجؤوا إلى الجامع الأزهر وطلبوا تدخل المشايخ، كما لاذوا بدار السيد عمر مكرم، واستطاع حجاج الخضري وابن شمعه، وشيوخ الطوائف والحرف، تحريك الجموع الغاضبة. وشهدت شوارع مصر غليانًا وغضبًا، وفي نفس الوقت راسل محمد علي قادة الشعب وأخبرهم بتأييده لهم ودعمه لتحركهم ورفضه لما يفعله الوالي، وظل الأمر في شد وجذب، وكلما ازداد الوالي عنادًا ومكابرة، ازداد الشعب تصميمًا على رفض سياساته.

 

في أثناء ذلك جاء فرمان بتولية محمد علي حكم جدة، وضرورة مغادرته أرض مصر، فثار علماء الأزهر وأعلنوا تمسكهم به في مصر، نظرًا إلى حسن ظنهم به وبحبه للبلاد، فانقسم الجنود الأتراك في ما بينهم، ووصل الأمر إلى قتال بعضهم بعضًا.

وقد استغل حجاج الخضري هذه اللحظة التاريخية، فأوعز إلى الجموع رفض حكم خورشيد وضرورة عزله. وتطورت الأحداث سريعًا، فقاد حجاج الجموع الهادرة، وحاصروا القلعة ومنعوا عمن فيها المؤن، واشتبكوا مع جنود الوالي في مناوشات، وتبادلوا معهم إطلاق الرصاص، فاشتعلت شرارة الثورة في البلاد، وكان لزامًا على طليعة الشعب -ممثلة في العلماء والمشايخ- أن تنحاز للثورة الشعبية، فعقدوا مجلسًا في بيت القاضي وكتبوا للسلطان يعلمونه برفضهم لمسلك الوالي وفرضه الضرائب وظلمه للناس، ما يستوجب عزله.

وازداد الأمر تعقيدًا، وواصل الخضري بإن قام بمحاصره القلعة واستطاع إحباط محاولة تسلل لتوصيل أسلحة وعتاد للوالي المحاصَر، عبر صنع نقب في أحد أسوار القلعة.
وفي نهاية الأمر رضخ السلطان لمطلب المصريين، وأصدر فرمانًا بعزل خورشيد وتولية محمد علي حكم مصر. وتعهد الوالي الجديد أمام الجميع بحسن إدارة الأمور وتحري العدل في مسلكه، ولم يهدأ الثائر وإنما حذر الوالي الجديد من أنه إذا حاد عن طريق الصواب فسوف يعزله الشعب المصري كما عزل من سبقه من الولاه.

حجاج الخضري صاحب الثورة المنسية

(الخُضري ومحمد علي باشا)

وظلت العلاقة متوترة بين حجاج الخضري وبين محمد علي، وكان الخضري يؤلب الجموع ضد أية قرارات يراها ضد مصلحة المصريين، أو يشم منها بداية تسلط الوالي الجديد ونزوعه نحو فرض ضرائب جائرة تأسِّيًا بمن سبقوه من الولاة الظالمين ولم يري حجاج الخضري أي فارق بين محمد علي وغيره من الذين سبقوه.

وبمرور الوقت، استطاع محمد علي التخلص من الزعامات التي أجلسته على كرسي الحكم الواحد تلو الآخر، مستغلاً ما بينهم من صراعات تارة، وحائكًا للمؤامرات تارة أخرى، وجاء الدور على حجاج الخضري، وأصبح الناس يومًا فوجدوه مشنوقًا على باب حارته بامر الباشا محمد علي الذي كان يري في الخضري وثورتة التي اوصلته إلى سده الحكم هو واهله وعائلتة الغريبة عن ارض مصر تهديداً لاطماع في تلك الارض الطيبة، ومع قتل قائد الثورة حجاج الخضري صاحب الثورة المنسية وقف الناس باكين أسفل الجسد المدلى، كأنهم يبكون ضياع حلم حكم مصر بيد المصرين، ذلك الحلم الذي لم يتحقق إلا بعد قرن ونصف من شنق بطل الثورة المنسية حجاج الخضري، الذي ضنت كتب التاريخ بذكر اسمه، باستثناء صفحتين أو ثلاث في كتاب عبد الرحمن الجبرتي، الذي كان شاهد عيان على قيام وانهيار ثورة 1805م، وقائدها الشهيد حجاج الخضري الرجل الذي فقدته مصر بخيانة وإليها محمد علي باشا.

حجاج الخضري صاحب الثورة المنسية

– مصادر المقال:

– 1- كتاب تاريخ الجبرتي ..
– باب مستهل العام ١٢٢٠ هجرية
– لعبدالرحمن الجبرتي.
– 2- كتاب كل كلاب الراعي
– أشرف العشماوي.
– المراجعة اللغوية: ناريمان حامد.

إقرأ أيضًا:-

نبذة عن السيرة الذاتية لحياة الملك فاروق. 

حرب العبيد وحكاية سبارتكوس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا