مقالات

هدىٰ الهوىٰ .. الشعراء في القرآن الكريم

كتب : أحمد فوزي

عبر القرون و الأزمان كانت للحضارات و الشعوب من يحوي مشاعر أمتها بلفظ منمقٍ و عاطفة حارقة تثور بثورتهم و تجوش بحُرقتهم و تحب و تحارب و تهجو و تآسى بأفئتدهم ؛ و هم الشعراء ، وقد احتلوا مكانتهم الرفيعة من أيام اليونان و الرومان لوقتنا هذا و لكن إن رأيت أكثر من قدَّس مكانتهم فهم العرب ..

الشعراء في الجاهلية :

و العرب كانت تحتفل بميلاد شاعر لها فغدت بعض القبائل تفخر بشعرائها كما فرسانها و أكثر ، فهو لسانها الحامي و مادحها الرقيق و هاجي أعداءها اللاذع ، فكانت مكانة الشعراء أقيم من أي فرد في القبيلة مادام يحمل سمعة قبيلته في كل منظومة يُقفيها ؛ فبداية من المهلهل بن ربيعة و امرئ القيس و زهير و عنترة و لبيد و النابغة و طرفة نهجت العرب على نهجهم رغم اختلاف سجية الواحد منهم عن الآخر لكن مكانتهم العظيمة التي مكنتهم من تخليد مُعلقاتهم جعلت القبائل تفخر بشعرائها.

هدى الهوى...الشعراء في القرآن الكريم
هدى الهوى…الشعراء في القرآن الكريم

أغراض الشعراء في الجاهلية :

و الشعراء قبل الإسلام أو قل الجاهلية كانت تتمحور قصائدهم في مواضيع رئيسة ، بجانب الفخر القبلي و الهجاء و الرثاء ، في وصف الخمر فكانوا أكثر الأقوام حُبًا للخمر و نرى ذلك في معلقة عمرو بن كلثوم الذي بدأ قصيدته في وصف الخمر ، المرأة ؛ و هي مادة خصبة لكل شعراء الأمم و العرب في أشعارهم أخذوا حظهم في غزل المرأة و كثيرًا ما نرىٰ ذلك في شعراء العرب كأمثال زهير و عنترة ، الفخر القبلي و هو طبع لدى شعراء العرب قبل الإسلام و إن كان فيه العصبية لكنها في الأساس ثقافة أهل الجاهلية التعصب القبلي،

و إنما ذلك لطبيعتهم رغم عدم ائتلاف الوحدة العضوية في القصيدة الجاهلية لكن لنقل أن بعض الأبيات تمثل موضوعًا ما فالشاعر العربي رشيق جدًا في نقل بكاء الاطلال مع وصف الخيل ثم وصف الحبيب و فخر العائلة و لكن حسب طبيعة الشاعر و عاطفته الصادقة سيُثقل قافيته حول ما يشعر به.

هدى الهوى...الشعراء في القرآن الكريم
هدى الهوى…الشعراء في القرآن الكريم

أثر نزول القرآن على الشعر :

حينما نزل القرآن الكريم علم أهل اللسان من العرب أن هذا الكلام ليس بشعر منظوم كما في الشعراء و ليس بنظم مسجوع كما في الكُهَّان بل قول محكم لم يصل إليه إنس و لا جآن ، فالشعر في كبده هوىٰ طائر و عاطفة زاحفة ليس لها من الواقع غير اقتباس الخيال منها ، أما القرآن فهو بعيد تمام البعد عن الهوى و إغواء العواطف ما جعل السفهاء من المشركين يظنون ظنًا عجيبًا و هم لما ظنوا منكرون ، يرى د. زكي نجيب محمود و الكاتب القدير أحمد أمين أن القرآن في كتابهما قصة الأدب حول العالم أن ؛ أن القرآن الكريم مصدرٌ أدبيٌ عظيم فهو كتاب مقدس فيه الحكم و العبر و أحسن القصص و لم يرقَ لمستواه الشعر و لا غيره غير أنه منبع فياض لكل أديب ،

و أيضًا نظرية الجرجاني حول نظم القرآن الكريم و إعجازه المُتقن الذي أطاح بإعجاز الشعر ؛ فالشعراء العرب قد فهموا إعجاز القرآن الكريم البلاغي حقًا قد لا يفهمون نظم الجرجاني أو قصص الأدب حول العالم و لكنهم قد أدركوا بسليقتهم و فطرتهم عظمة القرآن الكريم ..

رؤية القرآن للشعراء :

و جاء القرآن الكريم بذكر الشعراء في مواضيع كثيرة .

فقال تعالى ” و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين ”

و قال تعالى أيضًا ” و الشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترَ أنهم في كل وادٍ يهيمون و أنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ذكروا اللّٰه كثيرًا ”

فمثلاً لو أردنا رؤية القرآن الكريم للشعراء من مواضع تلك الآيات سنرىٰ إشكالاً عظيمًا ؛

فمحور الآيات لبعض الناس كأنه ينصُّ على حُرمة الشعر و بشاعته لوصفه كأنه مقترن بالكذب و الهوىٰ .

لكن الحقيقة غير ذلك فبعض الناس قد يقع خُلدها في خطيئة ما حول تفسير تلك المواضع ؛

فهنا القرآن الكريم إنما يندد و يعنف الشعراء المشركين لا الشعر . أي أن غالبيتهم يقولون ما لا يفعلون و في كل واد و خلد يهيمون حتى و لو يتذوقوا ما قد هاموا به .

و لكن هناك فئة قد نسيها البعض و هم من قال فيهم تعالى

” إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات و ذكروا اللّٰه كثيرًا ”

و هؤلاء هم الشعراء المؤمنون و نرى أن صلاح الشعر مقترن بذكر الرحمن كثيرًا ؛

فالشعر لغة عاطفة و هوى و الهوى يرمي في مصب لا تُدرك شروره من محامده .

الشعراء حين الدعوة الإسلامية :

و الشعر أثناء رسالة المصطفى صلَّ اللّٰه عليه و سلم

استخدمه المشركين كسلاح فتَّاك لا يقل خطورة عن غاراتهم الغادرة لإبطال الدعوة ؛ فكانوا كثيرا ما يهجونَ الرسول و المؤمنين بهجاء مقيت و هذا النوع يقابل في عصرنا الآن حربًا إعلامية فهنا كما أوضحنا أن ألسنة القبائل و الأشراف هي من تتكلم و هذه حرب دبلوماسية راقية لا يدخل في ساحتها غير بليغ منمق .

لذلك فإن الدعوة الشريفة كانت بحاجة لمحارب دبلوماسي و لسان إعلامي يحفر مكانة المسلمين في ذلك الحقل

حتى ظهر الشعراء المسلمون مثل حسان بن ثابت أمير شعراء الدعوة و كعب بن زهير بن أبي سُلمى شاعر البردة الشهيرة ،

و لما عظم دور الشعر عظم معهم دور الشعراء المسلمين الذين يهجون الكافرين حتى قال الحبيب صلَّ اللّٰه عليه وسلم لحسان بن ثابت :

” اهجهم فاوللّٰه لهجاؤك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الليل ” .

فمن هذا الحديث الشريف نستنبط أن الشعر في منظور القرآن و الإسلام ليس بمحرم أو بمعيب و أن الشاعر ليس زانٍ بكلامه ، و إنما الشاعر وجب عليه أن يستغل سيلقته بأن يدافع عن دينه و رسوله.

القرآن يجمل الشعر :

و مكانة الشعر إنما قد تأتي بمواضيعه و أغراضه

فنحن قُلنا أن الجاهلية تمحورت أغراضها الشعرية بين الخمر و المرأة و القبيلة و أما الإسلام فقد حث على فكرة الأمة و جعلت الشعر طوعًا للدفاع عن الدين و الدعوة ثم توالت العصور الإسلامية و فُتحت دويلات و حضارات و كثرت معها الأغراض ، فأصبح الهوى مرة أخرى هو حاكم الشاعر لما يُنظم فلم يعد هناك حل لتطويع الشعر بشكل أصلح غير قوله تعالى عن ذكر الشعراء المؤمنين :

” و ذكروا اللّٰه كثيرًا ”

فعلى كل شاعر أو ناظم أو قائل من بليغ القول و حَسن المعنى أن يذكر اللّٰه بكثرة و ذلك لأسباب عدة ؛

من بينها صلاح النفس التي تهذب وسيلة الشاعر و بذلك تسمو غايته فيقع ذلك الصلاح على أذن و أعين المتلقين فيُحفر فضل الشاعر على المتلقي.

و هنا وقفة ؛

فالقرآن لم يحرم الشعر .. القرآن هذَّب و جمَّل الشعر

ما يُعظم و يعزز مكانة الشعراء.

اقرأ أيضًا:

الشعر الجاهلي بين الرفض والقبول

المرآة وجعجعة المجتمع

الأدب العربي وتطوره عبر العصور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا