التاريخ والآثار

هرم مصر الرابع

بقلم/ناريمان حامد.

“لا يعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحاكي هذا الجامع، وقبته التى لم يبن مثلها”.

“إنه جامع لا ثانىِ له في مصر ولا في غيرها من البلاد فى فخامة البناء”.

“أنه جامع يشرف على القاهرة كلها، وأسلوب بنائه من أرقى الأساليب المعمارية؛ لذا يعد أجمل جامع في الشرق كله بلا نزاع”.

هذا ما قاله المقريزي، والرحالة المغربي ورثيلانى، والمصور لينوار عن الكنز الإسلامي الضخم الذي لا يعرفه الكثيرون؛ إنه مسجد ومدرسة السلطان حسن 

ولكن قبل الحديث عن مسجد السلطان حسن الذي يعد من أهم آثار القاهرة، بل أهم مساجد العالم؛ فلنوضح الآن ..

(من هو السلطان حسن؟ وماهي قصته!)

إنه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون.
هل تعلموا إنه كان اسمه أولاً قماري؟
لكن عندما تولى ملك مصر في (١٤ رمضان سنة ٧٤٨ه‍) لم يرض بهذا اللقب وقال إنما اسمي حسن؛ فاستلطفه الناس لذكائه وصغر سنه، فعندما تولى الحكم كان عمره ١٣ سنة فقط!
ولصغره ناب عنه في إدارة شئون الدولة “الأمير بيغا، والأمير منجم”.

(لنذكر كيف كان عصر هذا الملك الصغير؟!)

 

فى السنة الثانية لحكم السلطان حسن، ظهر الوباء (الطاعون) الذي لم يقع مثله! فكان يموت بالقاهرة من ١٠,٠٠٠ إلى ١٥,٠٠٠ شخص كل يوم، وأصبحت الناس تصنع التوابيت والدكك لتغسيل الموتى حسبة لوجه الله بغير أجر وحفرت الحفائر والقيت فيها الموتى، هل تتخيلوا بأن الحفرة الواحده كان يدفن فيها من ٣٠ إلى٤٠ شخص وأكثر!!

ولكن هذا الوباء لم يكن هو الخطر الوحيد؛ فظهر أيضاً فساد الأمير منجك وأخيه بيغا؛ حيث فرضوا الأتاوات على الرعية ولم يكن لديهم أى شئ من مظاهر الرحمة ..
ففي سنة(٧٥١ه‍) عندما أثبت القضاة أن السلطان قد بلغ سن الرشد وقادر على تدبير أمور البلاد بنفسه من دون أى مساعده من الأمير منجك واخيه.

لم يتقبلوا الأمر وتآمروا عليه وحاولوا إبعاده عن الملك،وقاموا بوضعه فى السجن وتعيين أخيه لكن أعيد السلطان حسن إلى ملك مصر مرة أخرى، وبعد فترة أشتدت الفتنة بينه وبين الأمير يلبغا وقتله ولم نعثر على جثمانه حتى الآن!
وقيل بعض المؤرخين: “إنه خنق وألقى به فى البحر ولم يعرف له قبر”.

(قصة بناء المسجد)

 

بدأ بناء جامع ومدرسة السلطان حسن عام (١٣٥٦م)، أثناء فترة حكم المماليك لمصر وبالتحديد خلال فترة حكم السلطان حسن، وفى هذه الفترة كانت مصر ليس بها استقرار سياسي؛ فكان دائماً يوجد صراع بين الأمراء المماليك على السلطة، وكل فترة ينقلبوا على سلطان ويقتلوه ويحكم سلطان آخر وهكذا، لكن السلطان حسن تصرف بذكاء، وقام ببناء الجامع فى ميدان الرميلة (ميدان صلاح الدين حالياً).

هرم مصر الرابع

(لماذا أختار السلطان حسن هذا المكان بالتحديد لبناء مسجده؟)

كانت قلعة صلاح الدين قديماً تمثل رمز للسيطرة السياسة عند كل الناس؛ فكان من وجهه نظرهم أن من استطاع السيطرة على القلعة، يستطيع أن يحكم مصر ..

وهنا قرر السلطان حسن إنه يبني أعظم وأضخم جامع موجود بالقاهرة بحيث يضاهي ضخامة القلعة، وقرر أيضاً إنه يكون فى الجهه المقابلة للقلعة بحيث يؤكد على المرجعية الدينية، وأن كلمة الدين تعلو فوق كلمة الحاكم.

وكان السلطان حسن شديد الاعتناء بالجامع فى بنائه، وكان يصرف عليها بسخاء عظيم؛ حيث أنه قال: ” لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه.

(الجامع كمدرسة لتعليم الناس)

 

طلب السلطان حسن أن الجامع يكون مسجد الناس تصلي فيه، وأيضاً مدرسة لتعلم الناس أصول الفقه والدين ..

لذلك لو تطلعنا على تخطيط المسجد سنجد إنه عبارة عن أربع إيوانات .. كل إيون مخصص لمدرسة من المدارس الفقهية الاربعة ( الشافعي، المالكي، الحنبلي، الحنفي) .

وذلك من أجل التأكيد على فكرة أن التعليم أساس أي مجتمع متحضر، وجعل لكل مذهب من المذاهب الأربعة شيخاً ويدرس ل١٠٠ طالب ومعه ٣ معيدون لمساعدته وكان يعطى لهم جميعاً رواتب، وجلب لهم طبيب لكي يعالجهم إذا مرض أحد.

(اسم المعماري الذي صمم بناء الجامع)

ولا نستطيع أن ننسى الحديث عن اسم المهندس الذي صمَّم وشيَّد مسجد السلطان حسن، كنا نجهل اسمه حتى عثر عليه الاثري حسن عبد الوهاب بالمدرسة الحنفية داخل المسجد، وهو “محمد بن بيليك المحسني”.

 

(هل تسائل أحد عن سبب الراحة النفسية والخشوع الذي نشعر به فى المساجد)

المعماريين قديماً كان هدفهم الأساسي إنهم يضيفوا بُعد روحاني للمباني؛ لتنقل الناس من الحالة المادية التى يتعاملوا بها يومياً إلى الحالة الروحيانية التي يجب أن يعيشوها بداخل المبنى، وذلك لكي تبقى خالدة في أذهانهم على مر العصور.

فالمعماري كان يربط الناس أكثر بالمكان وذلك عن طريق أضافة بعض الرمزيات فى المبانى التى كانت تحمل معاني مختلفة؛ فبالتالي بيعطي قيمة معنوية للمبنى.
(الرمزيات التى أستخدمها المعماري في البناء)

من هذه الرمزيات، أستخدم الأرقام التي لها مرجعية عند المسلمين ووظفها فى المسجد لتوصلنا معاني بطرق مختلفة.

هرم مصر الرابع

وعلى سبيل المثال عند دخولنا من باب المسجد يجب أن نصعد على (١٢) درجة سلم.
ورقم (١٢) هنا يرمز لعدد شهور السنة، وأيضاً عدد ساعات الليل وعدد ساعات النهار وذلك ليؤكد على أهمية التوقيت بالنسبة للفرد المسلم؛ لأنه بيحدد مواعيد الصلاه والعبادات.
والجامع كان له مدخل (واحد) ليؤكد على وحدانية الخالق -عز وجل- ومدخل الجامع يكون منكسر ليأهل الزائر نفسياً ويفصله تماماً عن العالم الخارجي.

وأيضاً لو نظرنا إلى قبة المسجد التي قال عنها المقريزي: “إنها من أعلى القباب في العالم الإسلامي” سنلاحظ أن تحت القبه (٨) شبابيك.

وأيضاً الميضة(كانوا بيتوضى منها قديماً) التى توجد في منتصف الصحن هنلاحظ أيضاً أن سقفها مرفوع على (٨) أعمدة.

هرم مصر الرابع

ودكة المبلغ (يجلس عليها المبلغ ليردد تكبيرات الإمام فى الصلاة ليسمع المصلين) الموجودة فى إيوان القبله مرفوعه على (٨) أعمدة.
ورقم (٨) هنا له رمزية مهمة جداً عند المسلمين؛ لأنه بيرمز لعدد أبواب الجنة ال٨، وأيضاً الملائكة التي تحمل عرش الرحمن عددهم ٨.

هرم مصر الرابع

كماإن معظم الحوائط فى المسجد عبارة عن خطوط متكررة فاتح وغامق، وهذه الخطوط تسمى “الأبلق” وسنلاحظ وجودها كثيراً في العمارة الإسلامية.
والمعماري أستخدم الخطوط هنا لأنها تعبر عن تعاقب الليل والنهار.

ولو نظرنا إلى الجامع من فوق، سنرى “عرائس السماء” وهي موجودة في أغلب المساجد، ولو ركزنا فيها قليلاً؛ سنلاحظ إنها تجريد للأنسان بصورة متكررة ..

 

كأنه مجموعة من الناس واقفين فى صف واحد، وهنا المعماريين الإسلاميين كانوا يستخدموه ليؤكدوا على فكرة المساواة بين الناس فى الإسلام، وأن الناس كلها سواسية أمام الله.
وأيضاً المسجد يؤكد على اتجاهين مهمين وهما:
1- الإتجاه الأفقي: وهو اتجاه الكعبة، والذي يعبر أيضاً على اتجاه القبله، لذلك المسجد يوجه المبنى بالكامل جنوب شرق الذي يعتبر اتجاه القبلة في مصر.

2- الإتجاه الرأسي: فهو اتجاه السماء، والمعماري أكد عليه عن طريق عناصر معمارية كثيرة مثل المأذن، عرائس السماء.

( تجسيد رحلة الإنسان على الارض من خلال تصميم المسجد!)

ووضح ذلك المقريزي فى كتابه” المواعظ والأعتبار بذكر الخطط والآثار”.
فقال إنه عند دخولنا المسجد نجد أنفسنا فى ممر طويل مظلم لا توجد به أي أضاءة طبيعية؛ وهذا الممر المظلم يعبر عن (مرحلة تكوين الجنين في رحم أمه).

وبعد الممر بنصل إلى الصحن وعبر عنه بأنه يرمز إلى (ميلاد الأنسان وفترة شبابه) التي يتعلم فيها من المدارس المختلفة.

وأذا أكملنا السير فى نفس الاتجاه، سنجد فى نهاية الصحن “إيوان القبله” وهو يعبر (عن فترة الشيخوخة) التي يكون فيها إهتمام الأنسان الأكثر بالعبادات للتقرب من الله.

ويوجد خلف إيون القبله “ضريح(قبر) السلطان حسن” لكنه ليس مدفون به حالياً؛ لكن الضريح موجود في هذا المكان لسبب وهو ليؤكد إن رحلة الأنسان فى الدنيا بتنتهى بالموت.

ونستفيد من ذلك أن المبنى لم يكن مجرد مسجد يقام فيه العبادات أو مدرسة يتعلموا فيها أصول الدين والفقه، لكنه عبارة عن حكاية رمزية يحاول المعماري أن يحكيها للناس التى تزور المكان لكي يعطيه قيمة أكبر.

وفى أخر حكايتنا ذهب السلطان ولم يتبقى من ذكراه سوى هذا الصرح العالمي وكفى به أن يكون أجمل ذكرى.

-المراجع المستخدمة:

1- مساجد مصر واولياؤها الصالحون، (الجزء الثالث، د.سعاد ماهر).
2- تاريخ المساجد الأثرية، (د.حسن عبد الوهاب).
3- أولاد الناس، (د.ريم بسيوني).
4- المواعظ والأعتبار بذكر الخطط والآثار، (المقريزي).
المراجعة اللغوية: ناريمان حامد.

إقرأ أيضًا:-

سلطان مصر المغولي كتبغا

أدهم الشرقاوي آخر الشطار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا