التاريخ والآثار

يوم حكم مصر مجنون

 

بقلم الكاتب: عبدالعزيز مصطفى.

يوم حكم مصر مجنون
                              يوم حكم مصر مجنون

(النشأة الغليظة)

هو السلطان الملك الناصر أبو السعادات ناصر الدين، والدنيا محمد ابن الملك الأشرف قايتباى المحمودى الظاهرى
الشركسى .. ولد السلطان محمد بن السلطان الأشرف قايتباى
فى القاهرة و قد عانى محمد في طفولته من التربية القاسيه التي فرضها أبوه عليه، وقضى حياته شبه محبوس في القلعة، والمرة الوحيدة التي خرج فيها كان لحضور حفلة اتابك العسكر المصري “أزبك” في الأزبكيه. يقول ابن إياس:
” ولم يشق ابن السلطان المدينة سوى في ذلك اليوم منذ نشأ، وكان مقيماً بالقلعة لم ير البحر قط فى حياتة من قسوة ابية الذى قد حرمة من الخروج طوال عمره

(شهادة إبن إياس)

و قد حكى المؤرخ المصرى ابن أياس فى كتابة بدائع الزهور فى وقائع الدهور إن أبيه السلطان الأشرف قايتباى تضايق منه ذات مرة، وقد كان غليظ الطباع مع الخاصة لا العامة فألبسه ويقصد هنا الإبن محمد، ملابس قديمة رثة وأنزله ليعيش في طباق المماليك الجلبان، والجلبان هم المماليك الصغار الذين مازالوا أطفالاً تحت التدريب وطلب من المشرف على الطبقة إنه يجعله يكنس الأرض، ويجلس على مائدة الطعام مع المماليك الجلبان منزوى في ركن بعيد في آخر كرسى بالمائده نكابة به وليزيد فى تحقيره طلب السلطان الأب منه إن يضربه إذا لم ينفذ أوامره وأن يعامله مثل الجلبان، حتى إن اتابك العسكر أزبك طلب من لسلطان أن يسامحه وأضاف إبن إياس إن الناصر محمد بقى مكروه من أبيه حتى وفاته، ولم يعطيه لقب أمير فكان بذلك السلطان الوحيد الذى لم يحظى بذلك اللقب في حياتة ابداً.

(من الذل إلى السلطنة)

قد كان السلطان محمد هو سلطان الدولة المملوكية البرجية (الشركسيه) أو (الجركسية) العشرين والأثنين وعشرين.
وذلك لانه قد جلس على عرش مصر مرتين حكم من (1496 إلى 1497) وكان يبلغ أربعة عشر عام ومن(1497 إلى 1498) و قد كان الناصر ابن الرابعة عشر مخلفاً لأبيه قايتباي العظيم، كان جميل الهيئة، مليح الشكل، ولكنه هذا النوع من الجمال الذي يخفي في طياته القبح الداخلي، والشر، والقسوة الزائدة، لم يشعر بحزن كبيرعلى والده، إنما راح يمعن النظر فرحاً في السلطة التي أصبحت فجأة بين يديه، و الأمراء الكبار يقبلون له الأرض بين يديه، و خليفة بنى العباس يمشي منكس الرأس، الكل يسعى إليه ويطلب وده، لا شيء يحول دون تحقيق رغباته، في نفس الوقت عظم أمر الأتابكي قنصوه خمسمائة إلى الغاية حتى إنه لم يصل مع السلطان صلاة عيد الأضحى ولا صلاة الجمعة، وفي بداية عام اثنين وتسعمائة للهجره شعر السلطان أن الكل يتربص به، فأحضر المصحف العثماني، وحلف عليه سائر الأمراء والعساكر.

(غدر الأمير قنصوه الغورى)

ولم يتطلع الأمير قنصوه خمسمائة ولم يحلف في بداية الأمر على الولاء للسلطان، ولكنه طلع بعد أيام وحلف إيماناً غير صادقة، ويبدو أن السلطان الغلام شعر ببعض الإطمئنان بعد القسم، لم يكن شيء يحول دون تحقيق شهواته، بدأ طيشانه يظهر في أحد الأيام قبض على امرأة، وضربها بين يديه بالمقارع، وأمر بإشهارها على حمار وفي عنقها زنجير حديد، وهذا شيء لم يحدث قط من قبل، أن تضرب إمرأة بين يدي سلطان، بل إنه ضربها بنفسه، وبدا متلذذاً بالضرب، مستمتعاً به، ثم بدأ في النزول من القلعة ومصاحبة الأوباش، واللعب معهم، وتدخين الحشيش، وإتيان الرذائل، وأضطر الأمراء إلى إحاطته بأربعة من الحاشية لمنعه من النزول واللعب مع أولاد العوام، وصار الأمير تاني بك الجمالي يبات عنده كل ليلة في القلعة ليمنعه من ذلك، ولكن رغبات السلطان كانت أقوى، وشهواته أعنف، وطيشه أعظم، ولم يكن يهتم بمظاهر السلطنة، وفي ربيع الأول (902هـ) أقام السلطان المولد النبوي، وكان حافلاً، وكان أول احتفال عام يقيمه، ويحضره، جلس بين الأمراء، وفجأة أعتراه النعاس، وأضطر الأمراء على رش الماء على وجهه حتى يفيق كنوع من الأستهزاء به امام خاصتة.

(زوال الحكم)

في هذه الفترة بدأت الأطماع تتحرك، في جمادى الأولى تزايدت الشائعات بوقوع فتنة كبيرة بين الأمراء وفي مثل هذه الحال تغلق الأسواق، تقفر الطرقات، ويقبع الناس خلف جدران بيوتهم ينتظرون و نتيجة لذلك الصراع أحضر السلطان مماليكه و أمراءه و جعلهم يقسمون على الأيفاء له بالولاء التام و المطلق ..

و هنا يذكر ابن أياس : “وكان الناصر في تلك الأيام في غاية الطيشان..”
وينتهي عام (902هـ) ويعلق ابن إياس: “وقد خرجت هذه السنة على ما شرح فيها من الفتن والأفكار، والفساد، وخراب البلاد، ووقع فيها الغلاء وتشحطت الغلال، وقتل فيها من الأمراء نحو من خمسين أميراً، ما بين مقدمين ألوف وطبلخانات وعشرات، وقد تقدم ذكر ذلك عند وقوع كل حادثة، من أوائل هذه السنة إلى أواخرها، حسبما أوردناه من الوقائع، وقتل من الجند والعرب نحو من ألف إنسان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..”
(الحاكم بأمر الله المملوكى)

ويقول ابن اياس فى كتابة من ذكر السلطان محمد بن قايتباى فيقول: “أنه فيه نزل السلطان وبات في تربة أبيه، وحصل منه تلك الليلة عدة مساوئ لا ينبغي شرحها من فظاعتها ”
وفي هذه الأيام يضرب الطاعون أرض مصر ومات من الأطفال والمماليك والعبيد والجواري عدد كبير، وأستمر المماليك في أذاهم للسلطان أستخفوا به، وجاروا على الناس بخطف القماش من الدكاكين والبضائع من الأسواق، وصاروا يستخفون بالسلطان والأمراء، أما السلطان الغلام فلاه، لا يعبأ، غارق في طيشه، ينزل إلى بولاق في مولد سيدي إسماعيل الإمبابي، رحمة الله عليه، يعبر النيل في قارب، ومعه بعض أولاد خاله وأوقد حراقة نفط هائلة وبات هذه الليلة في المركب، ثم تكرر منه ذلك عدة ليالي أخرى، ثم صار يركب بنفسه في كل ليلة بعد العشاء وأمامه فانوسين وأربعة مشاعل، وعدد من العبيد السود، وإذ يرى أي إنسان في الطريق يناديه، ثم يسأله بصوت هادئ، ويتحاور معه، وفجأة يأمر بإمساكه ثم ينزل من فوق جواده ويقطع أذنيه وأنفه بيده، أو يقتله، وهكذا قتل من الناس عدد لا يحصى في مدة بسيطة، وكان إذا مر بدكان لم ير عليه قنديلاً يسمر الدكان.

(أغتصاب و سلخ الجميلات)

كان السلطان أثناء مشيه في الأسواق ينظر إلى البيوت فإذا لمح امرأة جميلة هجم عليه، اقتحمه واغتصب المرأة أمام زوجها وأخيها أو أولادها وفي إحدى الليالي دخل حارة الروم، هجم على دار إبراهيم مستوفي ديوان الخواص ليلاً وقبض على ولده أبي البقا وأراد قتله، فألقى والده نفسه عليه وأفتداه بألف دينار، كان السلطان الطفل – الذي أصبح مراهقاً بشعاً- قد بلغه أن زوجة أبي البقا جميلة فقد عليه بسببها، فأخفوها منه، فجرى منه ذلك، مرة أخرى سمع عن امرأة جميلة، فاقتحم طاقة بيتها، وأغتصبها، وضرب زوجها بالمقارع وسط بيته، و في يوم آخر أمسك بجارية جميلة، أغلق عليها الباب، ربطها في قسوة بشعة راح يسلخ جلدها، راحت أمه تتشفع لها، ولكنه لم يستجب لطرقاتها فوق الباب، واستمر حتى سلخ الجارية تماماً و كانت قد ماتت من هول ما حدث لها و كانت صرخاتها تصيب القلوب بالرعب ، وكان قد حشا جلدها ثياباً، وخرج يظهر لمن بالباب قدرته على السلخ، راح يصيح:
“إن الجلادين لا يستطيعون أن يفعلوا مثلما فعلت”

(نهاية الطاغية)

يوم حكم مصر مجنون
يوم حكم مصر مجنون

جاء العام (904هـ) والأحوال فى مصر سيئة للغاية، والمماليك طالبين الشر مع السلطان، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، نزل السلطان من القلعة وتوجه إلى بر الجيزة، لم يصحبه أحد من الأمراء، حتى أولاد خاله، نصب هناك خيمة وأرسل ليحضر أبو الخير لاعب خيال الظل المشهور، وجوق مغاني، وأقام ثلاثة أيام وهو في أرغد عيش، وأثناء عودته مر على الطالبية، وكان الأمير طومان باي الدوادار هناك، خرج الأمير وعزم عليه فلم ينزل عنده، فخرج إليه بجفنة فيها لبن فاخر، فوقف السلطان وهو راكب على فرسه، فقدموا له الجفنة اللبن والمعلقة فمد يده إلى الجفنة وأكل من اللبن، فبينما هو يأكل والأمير طومان باي ماسك لجام فرسه، فلم يشعر إلا وقد خرج عليه كمين من الخيام التي هناك نحو من خمسين مملوكاً، وهم لابسون آلة السلاح، فاحتاطوا به، وعاجلوه بالحسام قبل الكلام.
وقتل أشر قتلة، مثّلوا به كما مثّل بالمئات.
وهنا قال ابن إياس: “وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية نحواً من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكانت أيامه كلها فتن وشرور، وحروب قائمة، وما كان الأشرف قايتباي قصده أن يتسلطن ولده خوفاً عليه من ذلك”
ويسدل الستار على فترة حالكة من تاريخ مصر المنسي.

– المصادر:
1- كتاب بدائع الزهور فى وقائع الدهور ل ابن اياس،الجزء الثالث ، ص ٣٠٥ ، ٣٠٦ ، ٣٠٧ , ٣٠٨.

– المراجعة اللغوية: ناريمان حامد.

إقرأ أيضًا :-

بكائية مصر في الحرب العالمية الأولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا