رؤية وابداع

الجاحد

 

كتب : أحمد فوزي

 

عاش حياة صعبة في وقت كان أصدقاؤه يعيشون في الترف المادي و الأُسري ،
لا يرىٰ الحنان الأبوي أو عناية الأمومة ،
فقط دستور من النواهي الآمرة حتى إذا دخل جامعته رُفعت تلك الأوامر فقط نظرات بازداراء أو نصائح كارهة.
عانىٰ قاسم من العُزلة حتى وسط الجموع لا يُبالي بنفسه قط .
إنما أراد الهلاك بنفسه بلذة ماتعة دون النظر لحُرمة فعلته أو عيبها ، اتجه للتدخين يحرق أنفاسه يعلم جيدًا السيجار و النرجيل مضرٌ بعافيته لكنه رغم ذلك كان ينظر لها _ التدخين و المُسكرات _ بأنها التريَّاق الذي يحرق ضغوط حياته و ليست أنفاسه .

تعلق بفتاة منذ صغره لكنه رغم ما بهي كان خجولاً
الحياة غلبه حتى أن يكلم من أحب يومًا حتى إذا عزم للاعتراف بمكنون فؤاده لتلك الفتاة الذي يُحبها يُسرا
سمع بموعد زفافها ،
صُعق قاسم و أخذ يتهندم بملبس العُرس كأنه العريس
و ذهب إلى زفاف يُسرا ،
و في يد زوجها تلاحمت مهجة يُسرا فرحًا و على الجانب احترقت روح قاسم حُزنًا .
فعاد قاسم إلى الشط الذي كان يأوي إليه وقت حزنه
أخذ يكتب إلى يُسرا الحبيبة المفقودة رسالة طويلة
ختمها بقولته :
جميلٌ برؤية حبيبتي عروسًا و الأجمل أنني مدعو في عُرسها ” .
ثم نظر لمرساله الذي ساح حبره من دمع عينيه ثم رماه في النيل .

تمر الأيام مر السحاب على السموات الصافية شمس و قمر يتواتران و قاسم في سكرة لا حياة فيه غير أنفاسه المستنشقة المحروقة بدخان التبغ و أكلة تُذهب الممات .
و إثر حزنه تعلَّق بالنساء أو أشباهن أي واحدة منهن تُذهب غيظه بلذة بخيسة .
كل ليلة و ليلة في فراش إحداهن حتىٰ صار أكثر عُهرًا من فتيات الليل ، و جاءت القسمة الموعودة رأى غادة فتاة لم تألف من مكر البشر غير أن الخير خير و الشر شر .

في جامعته يترك المحاضرات لكنه التزم حتى لا تغادر عينه ، نظر إليها نظرة غير نظراته لمن اعتدن فراشه
وجد فيها ما كان يجده في يُسرا
لكن رغم ما به من فساد مازال على حيائه الذي فُطر به .
غادة فتاة متجهدة مكافحة تعمل و تدرس محافظة على فروض دينها لا تتحمل فوات الصلاة في ميعادها
ميقاتها مُقدس لا تضيع من يدها ساعة إلا و قد أنجزت فيها ما يعجز عنه الشباب في أوقات طوال .
لكنها شُغلت بفكرها و جوارحها كأي فتاة بريئة برجل .
الغريب أنها تنظر لقاسم مثلما ينظر إليها رغم علمها بصراطه المعوج لكن ترىٰ فيه ريحانة طيب وسط الكير المنتشر فيه ،
تريد قاسم بلا لا تريد قاسم وحده بل تريد إصلاح قاسم تريد قاسم الصالح .

ألم قاسم من يسرا علمه أن يعترف بما في صدره لمن يحب .
فكتب لها :
غادة ؛ إنكِ ردتتِ قلبًا ميتًا إلى الحياة فهل لصاحب القلب من بعد إذنك أن يبقَ حيًا معك ؟!
رأت الفتاة تلك الرسالة ففرحت و لكن أخذتها الربكة و الحياء فأصرت علىٰ الرد
فقالت : إن أردت الوردة عليك أن تستأذن صاحب الحديقة .
قرأ الشاب رسالة الفتاة فعلم مقصدها الشريف أي الزواج على سنة اللّٰه و رسوله .
غاب قاسم من الجامعة و عن العالم يتفكر في قول غادة
و هل هو صالحٌ للزواج ؟!
و هل قادرٌ على أن يُربي أطفالاً ؟!
هل ستكون غادة مثل أمه ؟!
هل سيكون هو مثل أبيه ؟!
هل الزواج سيصلحه من حاله المُزري ؟!
جهل الفتى أنه لا يُحسن رباية نفسه حتى يكون رب أسرة و يخاف على جرح غادة يومًا ، ما يخاف على أن تتركه في منتصف الطريق مثل يُسرا ؟!
هل سينسىٰ فتيات الليل اللاتي حفظن فراشه ؟!
و ماذا إن علمت غادة بماضيه ابن متمرد على أهله مستقل عنهم لا يرىٰ وجه أبويه إلا في أعياد المسلمين ، هل سيكون كذلك مع أهلها ؟!

الجاحد
الجاحد

لكنه عزم على الزواج بها .
فذهب لأهله يطالبهم بأن يتقدموا له بالزواج منها .
ضحك الأب :
فقال لم تفلح أن تكون ابنًا هل ستكون أبًا ؟
صمت قاسم ينتظر أن تدافع أمه عنه لكن الصمت كان ردها
فقال قاسم : وصل ردك أبي .
مهما يحدث سأتزوج بغادة .

ذهب لأهل غادة
كان أبوها رجلاً بسيطًا على علم بالدين و أمها سيدة فاضلة أحسنت تربية ابنتها .
فقال قاسم :
عمي إنني لست بمن ترضون دينه و خُلقه و لست بالغني الثري ، لكنني أُعاني من ضلال مسرمد لا يُبصرني نور الحياة و لقد أبصرت نورًا خرج من صُلبك أخذ فؤادي الميت من زمن طويل و جئت لذلك القبس حتى يكون جسر هدايتي هل تقبل بي صهرًا فأنا ضالٌ فقير و لكنني أبتغي من الرحمن الهُدىٰ و لعل هداه ممثولٌ في غادة .

قال الأب :
بُني لم أنجب ابنًا قط و لكنني ربيت ابنتي على شيم الرجال رغم أنها فتاة ،
و الضلال و الهدىٰ بيد اللّٰه ، الصلاح و الفساد بيد اللّٰه و الفقر والغنى بيد اللّٰه ، فأنت كلك بيد اللّٰه فاقترب منه تنل مأربك .
و أما ابنتي فإنني أعلم خفايا قلبها و أدركت أنها مُعلقة برجل ما و لعلك هذا .
فوجه ابنتي أنار بمجيئك و أرىٰ فيك ابني الصالح .
فلنقرأ الفاتحة .

قرأ قاسم الفاتحة و دمعه ينهمر على كفيه و يتذكر أن الحمدللّٰه رب العالمين لم يقرأها بعد الثانوية في آخر صلواته .
خطب قاسم غادة و تزوجا بمساعدة أبو الفتاة و سكنا معًا في أيام وردية لا تعلم إلا الريح الطيب .
و بعد عام من الزواج أنجب قاسم ولدًا أسماه عبدالله و في نفس اليوم قامت حريقة في بيت أبويه فاجتاحت النار كل شئ فماتا أبويه ؛ أمسىٰ قاسم يتيمًا ..

متى كان قاسم يتيمًا هو يتيم حين مولده حين طفولته حين مراهقته و شبابه لا يعلم أ يبكي أم يحزن في صمت
و هو اليتيم و أبواه أحياء . الآن أمسىٰ اليتيم يتيمًا
لكن عبداللّٰه وُلد ما فرح أبوا قاسم بحفيدهما ،
أ يفرح لمولد الولد أم يحزن لموت الوالد .
حزن الشاب حزنًا شديدًا لا بشاشة غادة تؤانسه أو مواساة حماه تجبره .
و تمر الأعوام ثم يأتي القدر على حماه ثم حماته فيحزن عليهما حُزنين
حزن زوجته التي تيمت و حزنه أنه فقد أبواه الحقيقين و مع ذلك كان يواسي زوجته كرجلٍ أقسم أن يقف في ظهر شريكة حياته في الحزن و الفرح .

تمر الأعوام و ينجب الشاب فريدة و محمد و يوسف
و تظهر التجاعيد مبكرًا على غادة بينما قاسم يزداد شبابًا رغم كبر سنه .
عاد قاسم القديم إلى ما كان عليه ،
تعرف على فتيات ليل في عمر ابنته فريدة و ضاعف عد السيجار في التدخين و صوت النرجيلة لا يفارق البيت أبدًا طقطقتها تُزعج الجيران اليقظة منهم و النائمين
و يعامل زوجته الطيبة معاملة قاسية و يعمد إلى إحباط أبنائه و عدم الاهتمام بهم .
كأنه انتسخ في روح أبيه ما رأه في صغره يكرره في كبره على أبنائه .
لا يأبه أن عبدالله إمام مسجد أو أن فريدة طبيبة وقورة
أو أن محمد معلم فاضل أو أن يوسف تاجر مكافح .
فقط يقسىٰ عليهم فقط يعود سكيرًا مدخنًا داعرًا على قمصانه رائحة التبغ و عطر النساء .
نكر جميل زوجته نكر جميل أهلها خالف عهد حماه أن يكون زوجًا و أبًا صالحًا ترك عمله و تفرغ للتمتع ؛
كل ما في جيبه هو ثمن لذاته و متاعه دون النظر لزوجته و عياله دون النظر لنفسه أ حقًا ذلك هو الرجل الذي عاهد اللّٰه ثم الناس أن يكون صالحًا؟! .

فريدة تقدم لها طبيب من حسب و دين و خلق فتزوجت و بارك اللّٰه لهما .
عبد اللّٰه تزوج من ابنة شيخة و بارك اللّٰه له في الصهر و الزوجة .
محمد سافر لبلدة عربية يعلم فيها اللغة و الدين .
يوسف ترك البيت و استقل بحياته و تجارته لكنه على وصالٍ بأمه دائمًا دون أباه .
مرضت غادة مرضًا شديدًا و زوجها في غمد سهراته
علم يوسف من أحد الجيران أن أمه في احتضارها
فذهب للبيت لها و عاد محمد من سفره لها و أتى عبداللّٰه بزوجته كي تعين أمه و جاءت فريدة مع زوجها كي تعين أمها ، و أما قاسم العجوز فهو في فراش إحداهن لا يدري شيئًا .
اشتد المرض على الشابة العجوز و في آخر أنفاسها قبل التشهد قالت :
” أبلغوا قاسمًا أن أمانته تحبه لكنَّها ستعود لصاحبها”

ماتت العروس الجميلة في فراشها الطاهر بين أبنائها و شُيعت الجنازة على روحها النقية ،
فعلم قاسم بموت زوجته فهرب الطفل العجوز إلى الشط الذي كان يأوي إليه مُذ صغره ؛ وقتما كان يهرب من جُحد أبيه و لا مبالاة أمه ذلك السجن الحُرّ كان يهرب منه كما يهرب العصفور من قفصه الذهبي ،
بينما أبناؤه يقفون الحداد على أمهم في كرب أصابهم مؤمنين بأن اللّٰه سيجبر كسرهم ،
و الغُرباء حتىٰ حزنوا عليها حُزنًا شديدًا ،
و أمَّا هو ؛
فقد كان يقرأ الفاتحة لها و هو سكيرٌ يتذكر رغم سكرته يوم الخطبة و قتما تلىٰ دامعًا قول اللّٰه
“الحَمدُ للّٰه ربُّ العآلمين ”

بعد الجنازة ذهب كل من فيها الابن المسافر و الابن المتزوج و الابنة المتزوجة و الشاب الذي هرب من سجن أبيه و قسوته .

و أما قاسم :
فقد عاد لبيته بعد أعوام قضاها في شرب المسكرات و التبغ و على فراش فتيات الليل اللائي يصغرن ابنته.

ذهب لغُرفة نومه وأخرج قميص زفاف غادة الذي تزوجت بها و كانت فيه حورًا فردوسيًا ،
ثُمَّ فرشه على سريره ثم نام عليه باكيًا ،
نام و لم يستيقظ .

 

اقرأ أيضا

فلسفة الرحيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا