رؤية وابداع

الشطُّ الأحمر

بقلم:أحمد فوزي 

عبر الجسر المهدوم شطين،
الشطُّ الأول أخضر معمورٌ متكدسٌ بالناس الأفاضل
يقولون أنها العالم الأجمل العالم الأفضل فيه الخير الوفير ممثول بالزرع الكثيف، و القصور المعمورة، و الحدائق الغناءّ، و الرجال الفوارس و النساء الحِسان، الشطُّ الأحمر

الشطُّ الأحمر
الشطُّ الأحمر

و الشطُّ الثاني شطٌ أحمر مخروب مهجور بالأهالي ليس فيه إلّا المتسولين أو قُلْ الشباب العاطل عن كسب رزقه،
يقولون هو العالم الأقبح وَ الأسوأ فيه الفقر الشديد ممثولٌ في أرضه المقفرة و كوخه المهدوم ، و طللّه الحزين،
و الرجال العُراة وَ النساء الحُفاة.

الجسر الذي أعبرُ منه أخشابه ناقصة و قدمي علىٰ الشط الأحمر أُريد إكمال نواقص الجسر حتىٰ أستطيع المسير
و أصل للشطّ الأخضر .
أنتقل فقط من العالم الأسوأ للعالم الأفضل،
و أهجرُ الكوخ وَ أسكن القصر .
لعلَّ بعد تعب المسير أظفر بهذا العالم .

صُّوفيا معي أخذها ما أخذني من ذات البُغية،
تقول لي : هل ستشتاق للشطّ الأحمر ؟!
قُلت : هل الاشتياق يستحقه الطللّ و الكوخ و الأرض المقفرة ، يكفي أنني أهجرها بلبس عاري و يكفي أنكِ تصحبيني بقدمٍ حافي .
فقالت : أفلّو استتر عُريك و نُعل حفائي ستعود ؟
قلت: جنّىٰ آدم على نعيمه حينما طمع في الشجرة المُحرمة .
قالت : كلا ، ستعلم أن الشجرة حكمةُ اللّٰه .

نمشي في الجسر بعدما أكملنا نواقصه .
ثم حان الموعد المنتظر ؛
وصلنا للشطّ الأخضر نرىٰ في قِبلتنا حياة الترف و نحن لم نُترف .
القصور مُعلّقة كأنما الجبال إحدىٰ أضلعها، و الحدائق مزهرة نسيمها يُسكر الروح من طيب رائحتها، الرجال عظِام الخِلقة و النساء حِسان المنظر،
نظرت للنساء وَ نظرت صوفيا للرجال و افترقنا

رأيت فتاة تُدعىٰ سلمىٰ أجمل من صوفيا لا أعلم أ كان معيار الفتون ما جذبني إليها،
لكن حدث ما قُدّر و فُتنت بها ، و هي أيضًا فُتنت بي رغم أنني لا أملك سُترةً تسترني لكن رأت فيّ ما لم تراه في رجال شطّها .
و أمَّا صوفيا فيوم افترقنا و أنا لم أعلم خبرها .

جاءتني بزيٍ راقٍ يروق لمن يرافق جمالها .
و أمنَّتني على أموالها حتىٰ صرت أكبر تُجَّار الشطّ ،
سلمىٰ ؛
فتاةٌ جميلة غنية أيُّ رجلٍ يتمنىٰ مثيلتها ؛ إن وُجدت .
لكن ما جعلني أستمسكُ بها شئٌ واحد دون الباقي ؛
الجميلات الثريات كثيرات في الشطّ
لكن سلمىٰ كانت ذلك العالم الذي حلمت أن أكون فيه ،
أتعلمون أن الأماكن مقرونة بالشخوص .
أي مكان أي وطن لا محالة هو اثنان ؛
طللٌّ هاجرته الأحبة أو مستقرٌ سكنته الأحبة .

_
في سوق الشط ؛
رأيت أحد تُجارها استودع لدي أمانته برفقة زوجته .
إذ زوجته فتاةٌ تُشبه صوفيا مُزينةً مثل الأميرات

وقفتُ أتمعن البصر في تلك المرأة كأنها صوفيا لكنها لبست حذاءً يستر عورة حفائها ، يبانُ عليها أُبهة امراءة ذات جمال و حسب غير أن ملامح الوجه تُوحي بامراءة قد سكنت الكوخ المردوم في الشطّ الأحمر .
قال لي جاسم التاجر الذي استودع تجارته لدي ؛
أُقدم لك زوجتي : فرح !
قُلت و مطرقة قسمت بناني : أهلاً بارك الرحمن لكما و رزقكم من خيره .
ذهب التاجر و زوجته و أنا آيان الذهاب وددت لو أوقفت زوجته المدعوة فرح،
و أقول لها كيف غيرتكِ الأيام يا صوفيا و من هذا الذي تزوجتيه ؟!

تذكرت يومًا ؛
حينما كنا في الكوخ الأحمر كنت أنا و صوفيا في حُبٍ أصلب من أن يكسر و ألين من أن يُعصر و أشد من أن يُصهر.
أنا صالح أحد شباب الكوخ ممن أرادوا حظًا من عمار الدنيا
و صوفيا تلك الفتاة التي مثلت لي ذاك العمار ،
الذي جمعني بها بغيتنا الجامحة نحو الحياة ، بعدما تكدَّس الشطُّ الأحمر من المتسولين و المجرمين،
قررنا أنا و صوفيا هجر الشط الأحمر مسافرين نحو الشط الأخضر .
كان حُبًا من لون غريب ربطته المصلحة الشخصية،
قالت لي ذات مرة:
أنها تُريد رجلاً وسيمًا غنيًا لا يُتبعها في طلب و لا يُثقل عليها في أمر .

سمعتها و كأنني أخذت قولها علىٰ صدري،
فأنا لست بالوسيم و لا الغني و إنني إن طلبت منها كان عليها طلبًا ثقيلاً وَ إن نصحتها فهي تأخذها على محمل الأمر و هي لا تُحب الآمريّنَ .
فقلت :
أنا أريد امراءة ليست بالطامعة في أكثر من حقها الخجولة في غير أمرها .

فأخذت كلامي على صدرها . فصوفيا طامعة لا تشبع و جريئة لا تستحِ .
بعدما ظننَّا أن لا مودة بين دميمٍ فقير وَ شجعةٌ جسورة؛
نفترق .
و ما إن أكملنا الجسر العابر بين الشطّين مشينا،
و ما إن مشينا حتى وصلنا و ما أن وصلنا حتى افترقنا و كأننا لم نعد نألفُ بعضنا، بل وَ كأننا كُنَّا غريبين .
الحب الكامل لا يستمر ؛
أظن أن فراقنا كان لسبب أننا بحثنا عن العشق الكامل،
رغم أن لؤلؤ الحب يكمن في صفد النواقص،
هَهي سلمىٰ الجميلة الثرية قد أخذتني دميمًا فقيرًا عاريًا .

_
ذهبت للبيت؛
فرأيت سلمىٰ نائمة و ليست من عوائدها أن يطيل منامها،
فإذ بي حين محاولتي إيقاظها أرىٰ إزرقاق وجهها،
فبعثت أحد الأطبة فكشف ما ضَّرها؛
فقال البقاء للّٰه سُمت زوجتك فتثاقل بإيمانك

سمعت الخبر دون تصديق اللَّهمَّ إن فاجعة الواقعة وَ ليس ضعف إيمان .
تذكرت حينما كنت طفلاً في الشطّ الأحمر أنني كنت أكثر أطفالها كراهية، غير أن أمي هي التي تدافع عني .
و حينما زارها القدر شعرت بأنني مستضعفٌ لا يد دافعة عني .
موت سلمىٰ كسر ضلعي فأخذ معها القلب و النبض،
صرتُ الآن ميتٌ يتنفس . ميتٌ يأكل . ميتٌ يرىٰ فلا يُبصر وَ يسمع فلا يُنصت .
بعد موت سلمىٰ ؛ خسرت تجارتي و عُدت كما أنا فقيرًا كما كنت ، عُدت بعدما كُنت سيدًا مُهابًا إلىٰ متسولٍ يتأرجح في الأزقة .
لا شئ في عقلي غير ثلاث ؛
موت أمي، موت سلمىٰ ، اختفاء صوفيا ..

أصبح أهل الشط الأخضر بعدما ظننتهم أهل خير ؛ أهل عداء .
هم فقط يحترمون الغني القوي،
لكن ما لبثت فقيرًا مُستضعفًا إلَّا و رجموني بكل ما وقع في آياديهم .
بُين لي أن الشط الأخضر لم يعد مكاني و أنه أشر من الشط الأحمر بكثير .
قررت الرجوع لموطني الذي نكرته،
فقد رأيت حدائق الشط الأخضر كأنما الزَّقوم في جهنم،
أُريد الهروب منها، أريد الرجوع لذاك الكوخ الذي يذكرني بأمي و ذاك الطللّ الذي يُعيد خفاء صوفيا .
ولكنني نسيت أنني هدمت الجسر العابر حتىٰ لا يعبر منه أحد .
الجسر المبني فوق النهر الأسود متىٰ وقعت فيه أكلتك التماسيح .
أبني جسرًا جديدًا ليس هناك نقص هذه المرة فالخشب وفير ، لكن ينقصني صوفيا، التي وصلت معي و فارقتها .

وَ إذ أرىٰ امراءة من تلك ؟
أنها فرح زوجة التاجر جاسم،
قالت لي : تلك التي تبحثُ عنها بيعت عبدة لأحد الأثرياء ثم هربت و سبقتك للرجوع إلىٰ موطنها .
وَ كانت تردد في الشوارع ؛
أبلغوا صالحًا أنني انتظره في الكوخ
أبلغوا صالحًا أنني أنتظره في الكوخ
أبلغوا صالحًا أنتظره في الكوخ .
أخذت الرسالة على محمل الجد و قررت أن أرجع للشط الأحمر ،
و فور هرولتي على الجسر إذ سقطت في النهر الأسود .

كم كانت أحلامي ورديةٌ نحو البقاء في زريعة الترف،
نحو حب يكون كامل الأضلاع ليس فيه نقص معيب،
نحو قوة تمحي وهني الذي جعل الغير يستضعفني،
نحو البقاء في أحضان سلمىٰ التي تقبلتني بدمامتي و فقري وقتما تخلت صوفيا لذات السبب .
نحو أمي التي كانت حمايتي .
كم أن الأقدار بين الأحمر الأسوأ و الأخضر الأجمل
أراني أن الأسوأ فيه خير لا يوجد في الأجمل.

بين الشط الأحمر و الشط الأخضر ؛ نهرٌ أسود
بين الطلل و الحدائق و بين الكوخ و القصور ؛ تماسيح
سواد الطريق أوحىٰ لي بعظمة الوصول،
غير أنني كنت علىٰ الصراط المنحرف .

الشطُّ الأحمر ؛
بلاءٌ في مخاضه النعيم .

إقرأ أيضا :

كونى قوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا