التاريخ والآثارمقالات

مراحل الإستقرار في مصر

بقلم : بسنت محمد بكر

 

إنه من سمات الشعوب السحيقة جميعها الهجرة والتنقل من مكان لآخر تتوفر فيه مقومات الحياة؛ بحثًا عن الغذاء، والمشرب، والملبس، وعن بيئة تناسب العيش، وتبدو هذه الفترة من حياة الشعوب ذات ملامح غير واضحة لدي الكثيرين وفترة لم يوثقها التاريخ، ولكنها يستدل عليها وعن حياة الشعوب آنذاك عن طريق القطع الأثرية والبقايا العظمية والأدوات بمختلف أنواعها التي تخص تلك الفترات من خلال الحفريات ..

والآن نتطرق إلي الموضوع عن مراحل الإستقرار في مصر

وعند الحديث عن مراحل الإستقرار في مصر فلا نعني بذلك المصري فقط؛ حيث عاشت شعوب كثيرين في العصور السحيقة علي أرض مصر وكانت تأتي وفود إلي مصر السفلي في الشمال في الدلتا من الدول الآسيوية، ويأتي في الجنوب (مصر العليا) وفود من دول إفريقية؛ وبهذا أصبح يوجد في مصر شعوب من الجنس السامي ، وشعوب من الجنس الحامي ..

كشفت هياكل عظمية عُثر عليها في وادي حلفا أن سكان استوطنوا مصر “وادي النيل” قبل 700 ألف عام حيث لم تبدأ أي حياة بالإستقرار كما ذكرنا بل كانت تنقل وترحال من مكان لآخر وإستقرار مؤقت بالرغم من وجود نهر النيل منذ بداية الحياة علي الأرض ولكن لم يتم الإستقرار علي ضفافه إلي بعد مرور عدة مراحل وعدة عصور؛ والسبب يرجع إلي أنه في البداية كانت مياه النيل متدفقة من الحبشة ويغلب عليها الفيضان ولم تكن حفرت حوضها، فكانت بمثابة عامل طرد وليس جذب للإنسان؛ فاضطر الإنسان للجوء إلي الصحراء والتنقل من مكان لآخر حسب إحتياجاته ..

 

العصور الحجرية قبل معرفة الإستقرار

قبل اكتشاف النار كان الإنسان يعيش علي ما تؤول له به الطبيعة من أشياء وأدوات؛ يتغذي علي أوراق الشجر، صنع أدواته من الحجارة، منها الفأس اليدوية؛ ليستخدمها في الصيد واقتلاع جذور النباتات، بدأ في اصطياد الحيوانات وإستخدام جلودها وأوبارها في الملبس، سكنه لم يكن يتعدي العشش البسيطة من القش والبوص والخوص، والمقبرة عبارة عن حفرة بسيطة في الأرض، وكان ذلك في المراحل المختلفة للعصر الحجري القديم ( العصر الحجري القديم الأسفل ، والعصر الحجري القديم الأوسط ، والعصر الحجري القديم الأعلي)، ثم في نهاية العصر الحجري القديم عموماً تم اكتشاف النار والتي تعد أولي مراحل الاستقرار؛ ليبدأ في طهو طعامه، ويطور من الأدوات التي يستخدمها، ويجد وسيلة للدفء في المناطق الباردة بدلاً من الانتقال إلي مكان آخر؛ أي أن اكتشاف النار جعله يطور في كل أساليب معيشته، وفي العصر الحجري القديم المتأخر تكونت بحيرة موسمية نتيجة مياه الفيضان فبدأ في الحصول علي الأسماك وتدخينها في حفرة لتخزينها ومعرفة بعض انواع اخري للنباتات، واخترعوا أدوات جديدة منها:- (الأوهوان والقوس والسهم) وتطورت الصناعات المحلية تطورًا واضحًا في النوبة السفلي ويعتبر تطور واضح في استغلال المواد الخام، وتنوع في أساليب العيش، واصطياد الثدييات الكبيرة ، ويؤرخ العصر الحجري القديم من 500000 إلي 200000 ق.م .

مقومات الحياة
مراحل الإستقرار في مصر

 

أثناء فترة عدم الإستقرار والتنقل والترحال بدأ المصري القديم يعبد الأشياء إما جلبًا لمنفعتها، أو إتقاءًا لشرها،
وأثرت معيشته في الصحاري وظهور الحيوانات المفترسة، وتعاقب الليل والنهار، وظهور النجوم، والشمس، والقمر إلي ترسيخ أنه هناك قوة خفية تفوق مقدرة الإنسان وتفوق توقعاته في عقله، أي أن أيضاً البحث عن الاستقرار والتطور كان ايضًا في أفكاره ومعتقداته، والتي بدأت تتكون شيئاً فشيء .. ثم تأتي الفترة التي تتوسط العصر الحجري القديم والحديث وهي فترة إحلال عصر الهولوسين محل العصر الجليدي والذي نعيش فيه إلي الآن، وحل الدفء عموم الكرة الأرضية، وزاد فيضان النيل، وغطي طمي الفيضان معظم المواقع ..

 

العصر الحجري الحديث

فطن المصري القديم في هذا العصر إلي أنه إذا وجدت المياه، وجدت الحياة؛ فقادته الظروف إلي الاستقرار حول وادي النيل؛ ليتغير أسلوب حياته من التنقل والترحال إلي الاستقرار، ومعرفة الزراعة وجني المحصول ، وصيد الحيوانات، وبناء منازل، واهتدي إلي صناعة أوانيه من الفخار، وصناعات نسيجية للملابس من الكتان وجلود الحيوانات، وصناعة الحصير والسلال، وتطورت أدواته، وعرف استئناس الحيوان.
أهم تطور للاستقرار حول وادي النيل كان تقسيم السنة إلي ثلاث فصول تبدأ بـ فصل “الآخت” (الفيضان)، برت( فصل الشتاء والزراعة)، شمو(فصل الحصاد) ، وجعل السنة تبدأ بفصل الفيضان؛ لأنه يأتي بالماء وبالماء جاءت الحياة ..

مقومات الحياة
مراحل الإستقرار في مصر

 

كيف إهتدي المصري للزراعة ، وما هي أقدم زراعة في مصر ؟؟

قيل أن الإنسان كان الصائد الجامع وكان أثناء سيره تسقط منه حبوب علي الأرض فتغرس فيها، ثم يأتي الفيضان ويغمر الأرض وتنحسر المياه مرة أخري، فتظهر النباتات، وبهذا اهتدي لفكرة الزراعة .. تشير الدراسات إلي أن أقدم حضارة وُجدت في هذا العصر هي” الفيوم“؛ أي أن أول استقرار عرفه الانسان في مصر عن طريق الزراعة كان في الفيوم ..

ذكرنا في البداية إنقسام مصر إلي مصر العليا والسفلي، ومعيشة شعوب مختلفة بها، لنري تطور الحياة والثقافات بها بمعرفة الإنسان للزراعة في :-
أولاً :- في الشمال “مصر السفلي”..
الفيوم ظهرت ثقافة الفيوم(أ)، وكانت المعيشة بتلك الفترة عبارة عن أكواخ من القصب، وفوقها أقبية لتخزين الحبوب، ويشير “والديمار شيميلوسكي” والذي اكتشف هذه المنازل أثناء حفرياته، أنها كانت بمثابة منازل متنقلة، وتم بناءها علي شكل يشبه الخيام ، وتطورت صناعة الفخار، أما بالنسبة للسياسة فبدأ تشكيل حكومة مركزية بين زعماء القبائل، وبدأت القبائل الصغيرة تكون مجموعات تعيش في منطقة واحدة .
ثم نأتي لثقافة “الميريميدا” والتي تعتبر تطور من ثقافة “الفيوم أ“، تحولت فيها أكواخ القصب إلي أكواخ قطبية وتم بناؤها في صفوف دائرية، وكانت غالبًا تحت الأرض مع بناء جدر عالية توصل لأعلي السطح ، ثم ظهرت ثقافة المعادي وتاسيان وكان يميزهم البراعة في هندسة البناء ..

ثانياً :- في الجنوب”مصر العليا” ..
تأثرت بثقافة تاسيان وأنتجت ثقافة البادريان بتطور في المعمار وهندسة البناء أيضًا، ثم أن ثقافة البادريان والعمري”نقادة الأولي” تطوروا في صناعة السراميك والخزف، وظهر التحنيط مع ظهور حضارة الجرزة”نقادة الثانية“، وتعد هذه الحضارة النواة الأولي لانطلاق التجارة بين القبائل وبعضها، وبدأت صناعة الأسلحة، والمجوهرات، وتحولت الأبنية من مرحلة الطين والجص إلي الطوب المحروق، وبدأ ظهور الكتابة الهيروغليفية ولكن لم تكن نصوص أو جمل كاملة ..

نأتي بعد ذلك لحضارة “نقادة الثالثة” من 3200ق.م إلي 3150ق.م في عهد ما يسمي بـ”الأسرة صفر“، كانت التمهيد لظهور عصر الأسرات وكتابة التاريخ، وهي المرحلة الأكثر استقرارًا من حيث؛ التأثر بالثقافات الأخري، مثل ” بلاد ما بين النهرين”، ووجود علاقات تجارية، ووجود مقابر في هيراكونبوليس تدل علي ذلك ، بالإضافة إلي ظهور المدن، مثل “ثينيس، نيخن، نقادة”.

مقومات الحياة
مراحل الإستقرار في مصر

ثم تأتي فكرة التوحيد لمصر السفلي والعليا؛ لتبدأ مرحلة أخري وجديدة في حضارته وحضارة العالم بأكمله، ألا وهو التوحيد علي يد الملك “مينا” أو الملك”نعرمر“؛ حيث تضاربت الآراء فالبعض يري أنهم شخص واحد تبعاً لكتاب” الإيچيبتياكا” والبعض يري أن مينا كان مجرد غازي لمصر وكون العاصمة ممفيس فقط، والملك نعرمر هو موحد القطرين، ورأي ثالث أن مينا هو موحد القطرين، ونعرمر آخر ملوك عصر ما قبل الأسرات ..
ولكن علي أية حال أيًّا من كان منهم هو الموحد فالذي نعرفه أن البلاد دخلت مرحلة من الاستقرار والتوحيد ووجود حكومة مركزية موحدة وقوانين تحكم البلاد، وكل شيء مبني علي أسس قويمة؛ ليبدأ المصري القديم في بناء حضارته، ويبدأ في كتابة تاريخه، ويبدأ في بناء آراء فلسفية ومعتقدات في الدين والسياسة والفنون والحياة التي يعيشها والعالم الآخر والهندسة والمعمار وغيرها ..، ويستمر في التطور عبر التاريخ في الآثار، والأفكار، والمعتقدات،وغيرها ..؛ مما يجعله يؤسس حضارة مهيبة تتوارثها الأجيال .

 

 

إقرأ أيضاً :-

تاريخ مملكة معين من الإنشاء حتي السقوط

حكاية شق وسطيح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا