التاريخ والآثارمقالات

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الأول)

بقلم الكاتبة والباحثة الأثرية: ندى محمود غريب .

 

مصر كنانة الله فى أرضِه ، أنعم عليها بالعديد من النعم والهبات التى تضافرت لخدمة الإنسان المصرى الأول وذلك لعبور مرحلة الجمع والإلتقاط إلى مرحلة الصيد ، ثم ممارسة الرعى والإنتقال إلى حياة الإستقرار بعد مزاولة حرفة الزراعة وإقامة القرى والمدن ، وما ترتب على ذلك من ضرورة التوصل إلى طريقة للتفاهم والتخاطب ومن ثم نجح فى معرفة الكتابة التى كانت بمثابة الجسر الذى عبر عليه من مرحلة العصر الحجرى بعصوره الثلاث إلى مرحلة العصر التاريخي بمراحله ودوله المختلفة ، وهنا إستلزم الأمر ضرورة وضع نظام سياسى مركزى يسير علي هديِهِ .. هذا وقد واجه المصرى القديم أمور كثيرة عجز عن إيجاد أي تفسير لها وفشل فى معرفة كنيتها ، ومن هذا المنطلق ترك المصرى العنان لعقله وخياله ليسبح فى ملكوت الكون محاولاً إيجاد تفسير لكل ما هو مبهم أو على الأقل محاولة التوصل إلى فهم مايدور حوله .. ومن هنا جاء الإهتمام بالدين والعقيدة والتى تمحورت حولها كافة الأمور الحياتية وهذا ما تمثله لنا المناظر والنقوش والنصوص المدونة على الجدران ..

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الأول)

وبالنسبة لمصادرنا عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة :-
1. مصادر رئيسية :- وهى كل ماتركه لنا الأجداد من آثار كالمعابد والمقابر والتماثيل والمسلات والتوابيت واللوحات التذكارية وقوائم الملوك والرسائل الحكومية وما إلى ذلك ، والتى نشهد حالياً على تخريبها وتدميرها .
2. مصادر فرعية :- والتى تمثلت فى كتابات المؤرخين والرحالة وعلى رأسهم “مانيتون” .

 

دهور ماقبل التاريخ :-

بدأت معالم التاريخ الحضارى المصرى القديم منذ بدأ النشاط البشرى على أرض مصر ، ومرّت تطوراته فى ثمان مراحل زمنية إعتبارية استمرت آلافًا طويلة من السنين ، واختلفت كل مرحلة من مراحله عن الأخرى فى طول أمدها ، وفى طاقتها البشرية ، وفى مستوياتها الحضارية ، وفى أوضاعها السياسية ، وفى مدى التشابه أو التمايز بين أقسامها الفرعية ، وفى طبيعية العوامل التى بشّرت ببدايتها وطبيعة العوامل التى آذنت بنهايتها . واتصلت كل مرحلة من مراحل تاريخنا الحضارى القديم بسابقتها ومهّدت للاحقتها ، وتتابعت فيما بينها دون حدود قاطعة ..
فتعبير “ماقبل التاريخ” تعبير زمنى إصطلاحي مرن يطلق عادةً على الدهور البعيدة التى سبقت عصور معرفة الكتابة ، ويرادفه تعبير حضارى إصطلاحي آخر ، يقل عنه إمتدادًا فى الزمن وهو تعبير “الدهور الحجرية” ويقصد به الدلالة على الدهور التى بدأت خلالها تباشير الحضارات الإنسانية الأولى ، والتى لم يستخدم أهلها معادن مصنوعة على الإطلاق ، بل شكلوا خلالها أدوات حجرية بدائية متواضعة نفعتهم فى تحصيل قوتهم وفى أغراض الدفاع عن النفس ..

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الأول)

ومحصول الحضارة فى دهور ماقبل التاريخ محصول متواضع ضئيل لا يقنع به غير المتخصص ، ولكنه مع ضآلته لا يمكن تجاهله إلا إذا تنكرت البشرية لأصولها الأولى أو تجاهلت شقاء أسلافها المبكرين الذين واجهوا وحشية البيئة القديمة وواجهوا جبروت كائناتها العديدة ..
وبدأت للنيل قصته قبل ظهور الإنسان على أرض مصر وبداية ظهوره ، وكانت قد سبقته إلى الوجود مجموعة نهرية قديمة جرى الإصطلاح على تسمية أكبر أنهارها باسم Ur-Nil أى النيل العتيق أو ماقبل النيل ، وتخلّفت من معالم دلتاه رواسب بالغة السُمك والعمق وبقايا حيوانات منقرضة ، ثم بدأ النيل الحالى بأخذ مجراه فى دهر الميوسين الأعلى منحرف ناحية الغرب . ومضى النيل فى طريقة إلى الشمال بين نحت وإرساب طوال أواخر دهر البلايوسين وأوائل دهر البلايستوسين ، وأخد يستخلص دلتاه من البحر شيئًا فشيئًا ويبنيها برواسبه . وبدأ النيل أهم مراحله أثرًا فى حضارة أهله منذ تفتحت له آفاق النحت والنقل ، فحمل الغرين الدسم منها ، وغطى به الحصباء والرمال الخشنة القديمة فى واديه ودلتاه ، وردم به مناقع واسعة صادفته فى الصعيد وجعلها مهيأة للعمران والسكنى ..

ففى الدهر الحجرى القديم الأسفل :- أعتبرت أدواته أقدم إنتاج يدوى إطمأن المؤرخون إلى توقيت الحضارات البشرية الأولية على أساسه ، وقد إستمرت هذه الأدوات بمظاهرها الرئيسية آلافًا طويلة من السنين وتشابهت خصائصها الجوهرية فى أغلب بقاع العالم القديم المسكون وسار التطور فيها ببطء شديد ، وتميزت من مراحل تطورها فى مصر ثلاث مراحل متداخلة متعاقبة طويلة قابلت مراحل الحضارات الشالوسية والشيلية والأشولية فى أوروبا .

وفى الدهر الحجرى القديم الأوسط :- إتجه التطور الصناعى البدائى خلال هذا الدهر إلى الإستزادة من إستخدام شظايا الظران وتنويعها مع قليل من الإستعانة بأشكال الفهر القديمة (وهى عبارة عن زلظة غليظة من الظران لتشكل بلطة يدوية كأداة بسيطة خشنة) وتطويرها . كما وجدت أغلب الأدوات المصرية الباقية من هذا الدهر على سطوح الهضاب وجوانب الوديان عاارية على السطوح ، إلا حيث تراكمت المواد الرسوبية فوقها وغطت عليها ، وعثر عليها فى أغلب المناطق التى شغلتها حضارات الدهر القديم الأسفل قبلها ، فوجدت مختلطة بها فى زوايا متفرقة من محاجر الجبل الأحمر ومحاجر أبوالنور فى نجع حمادى .

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الأول)

أما فى الدهر الحجرى القديم الأعلى :- فكان إنسان هذا الدهر هو الإنسان العاقل جد الإنسان الحالى ، وظهرت فى بقايا هياكله المصرية المتأخرة التى عثر عليها فى منطقة قنا وقاو الكبير وكوم أمبو ، وجوه شبه جنسية قريبة من خصائص الهياكل المصرية التى تخلّفت من عصر ماقبل الأسرات فى الألف الرابع ق.م ، مما يعنى إستمرار قيام الإتصال الجنسى فى مصر بين العنصرين ، وعاشت جماعات هذا الإنسان فى ظروف مناخية تختلف فى بعض أمرها عن الظروف التى عاش فيها أسلافهم .

الدهر الحجرى الوسيط :- واعترف به فريق من الباحثين دون فريق كان من بينهم من مصر “ألكسندر شارف” ، واختلفت هيئات أدوات هذا الدهر وخصائص صناعتها إختلافًا واسعًا عن هيئات وخصائص الأدوات القزمية والأفهار الصغيرة التى شاعت فى الدهر الحجرى القديم الأعلى ، ورأى شارف أن أصحابها إستخدموها فى قطع الأشجار التى جفّ عودها وأصبحت عديمة الجدوى كما إعتقد أن أسلوب صناعتها وصل مصر عن طريق فلسطين وبدأ منذ نهاية الألف الثامن ق.م .. وهكذا فضّل فريق من الباحثين ومنهم من المصريين عدم الإعتراف بوجود الدهر الحجرى الوسيط فى مصر ، أو الإعتراف به على أساس إعتبار صناعته إمتدادًا للصناعات القزمية ؛ ويبدو أن الإعتراف بالدهر الحجرى الوسيط أو إنكاره لايحل ظاهرة سوف يلمسها القارئ فى نشاط أهل الدهر الحجرى الحديث الذى تلاه والذى تحتمل بدايته فى مصر منذ أواسط الألف السادس ق.م ، فقد قطع أهل الدهور الحجرية حتى ذلك التاريخ التقريبي آلافًا طويلة من السنين تتراوح فى مذاهب المتخصصين بين عشرات الآلاف ومئات الآلاف ، جاهدوا خلالها جهادًا طويلاً لا يمكن تصويره إلا عن طريق الحدس والخيال ، ضد قسوة الطبيعة ووحشية البيئة وضراوة الحيون ، وشحذت الشدائد والتجارب أذهانهم ، فأوقدوا النار وطهوا الطعام وتدثروا بالجلود وحصدوا الحبوب البرية وجرّشوها ، ووسدوا موتاهم تحت التراب عوضًا عن تركهم فى العراء ، وطوّروا أسلحتهم حتى إنتهوا بها إلى الرمح والقوس والسهم وطوّروا أدواتهم حتى وفروا فيها الأزاميل والمكاشط والمخارز ، وابتدوا يستمتعون بفن الرسم لمُتعة النفس وخدمة السحر فى بعض مناطق العالم القديم ، وربما هدتهم التجارب لمعرفة مايُخفف أمراضهم ويساعد على إلتئام جروحهم وجبر الكسور فى عظامهم ، ولكن ظلت قدرة الإنسان على الإبتداع على الرغم من ذلك محدودة لا تتعدى مطالبه الفردية المتواضعة .. وبعد فجوة غامضة قدرها شارف بنحو ثلاثة آلاف (وقدرها “هرمان كيس” وبعض الباحثين المحدثين بثمانية آلاف عام أو تسعة) دخلت حياة أهل الدهور الحجرية فى مصر وفى بعض مناطق الشرق القديم أنشطة جديدة بدّلت أحوالهم تبديلاً ملموسًا أسرعت معها خطاهم الحضارية ونشّطت مقدرتهم الفكرية وأصبحوا أكثر فاعلية فى بيئتهم وأقل خضوعًا لها عمّا كانوا عليه فى دهورهم القديمة .. كما أدّت بعض العوامل الجيولوجية والفسيوجرافية قبيل أوائل هذا الدهر على مساعدة النيل فى ترسيب الغرين الدسم الذى أخذ ينقله فى مواسم فيضانه العالية من هضبة الحبشة ، ولما اكتسى سطح الوادى بهذا الغرين الدسم فوق طبقات الحصباء والرمال والطمى الخشن التى يحملها النيل من موارده المائية الأولى ، أصبح مهيئًا لأن يتلقى طفرة حضارية جديدة ، ينتقل أهله بها من حياة الجمع والإلتقاط والصيد إلى حياة الإنتاج والإدخار والإستقرار ، أو بمعنى آخر إلى حياة الزراعة .

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الأول)

الدهر الحجرى الحديث :- وبالرغم من كونه أكثر الدهور الحجرية زمنًا إلا أنه يعتبر عصرًا للتمييز بينه وبين ماسبقه من دهور حجرية طويلة ، وقد جرى الإصطلاح على تعريفه بثلاثة تعريفات: تعريف زمنى يُسميه “العصر الحجرى الحديث” وتعريف حضارى يجعله “عصر بداية الإنتاج” وتعريف تاريخى يعتبره “عصر فجر التاريخ” ، وتتابعت مظاهر التطور الحضارى خلال هذا العصر فى مرحلتين طويلتين: مرحلة نيوليتية Neolithic أى مرحلة حجرية حديثة خالصة ، ومرحلة كالكوليتية Chalcolilhic أى مرحلة نحاسية حجرية .

وبالنسبة للنشاط البشرى فقد إتجه المصريون إلى تنويع أسباب الرزق والرقي بالصناعات الحجرية القديمة وإبتداع صناعات أخرى مستحدثة ، وظهرت لهم فى فى هذا السبيل تسعة مجالات وهى ( إستئناس الحيوان وتربيته – الإهتداء إلى زراعة الأرض والإستقرار بجانبها – صقل الأدوات الحجرية والإرتقاء بها وتعديل هيئاتها – الإهتداء إلى صناعة الفخار وتنويع أشكال الأوانى وألوانها – بداية التمرس على عمل الحصير والسلال وتضفير الحبال وغزل الكتان ونسجه – محاولة صنع الأوانى الحجرية الصغيرة – وضوح الإهتمام بأدوات الزينة والبحث عن وسائل الإستمتاع – وضوح الإهتمام بالمساكن فى حدود الإمكانات البسيطة المتيسرة – بداية الإهتمام بمدافن الموتى وقرابينهم )، وجمّعت بين الخمسة مجالات الأولى خصائص عامة إشتركت فيها المواطن الحضارية التى شهدتها أرض مصر خلال عصرها الحجرى الحديث مع فروق محلية قليلة ، بينما ظلت المجالات الأربعة الأخيرة ذات خصائص إقليمية متواضعة إختلفت فيها كل منطقة حضارية عن أختها .

وقد أسلفنا الذكر أن المصريين بدأوا تحديهم للنيل على حذر وبدأوا يقيمون قُراهم على مناطق الحواف (حواف الأرض السوداء وحواف الصحراء)، وكشفت البحوث الأثرية خلال القرن الحالى عن بقايا متواضعة من أربع قرى من قرى الحواف التى عاشت خلال المرحلة الناضجة من العصر الحجرى الحديث ، أى المراحل التى أتت بعد التجارب الأولى الغامضة فى الرعى والزراعة وتعدد الحِرف ، ونسبت إلى كل منها حضارة محلية متمايزة وهي :-
1. حضارة مرمدة بنى سلامة فى جنوب غرب الدلتا .
2. حضارة حلوان عند رأس الدلتا القديمة وقرب حلوان الحالية .
3. حضارة الفيوم فى نهاية مصر السفلى .
4. حضارة دير تاسا فى قلب الصعيد .
وأخذت كل حضارة من هذه الحضارات الأربع بالخطوط العريضة لحرف عصرها واتجاهاته ، ولكنها إختلفت فيما بينها فى تفاصيل الصناعة وعادات الدفن ، كما تفاوتت معرفة التاريخ بكل واحدة منها تبعًا لاختلاف مدى التنقيب فى أرضها .

لمحة حضارية فى سطورٍ تاريخية (الجزء الأول)

أما عصر بداية المعادن :- فهو عصر الحضارات النحاسية الحجرية ويطلق عليه الفرنسيون أحيانًا إسم العصر الأنيوليتى ، واستمر أهل فجر التاريخ فى تطوير مجتمعهم وتطوير أدواتهم هونًا فهونًا ، وكانت خطوتهم الرئيسية بعد معرفة الزراعة هى معرفة إستخراج معدن النحاس من أخلاطه الطبيعية واستخدامه فى صناعة الأدوات الصغيرة جنبًا إلى جنب مع الأدوات الحجرية القديمة ، ودعا الجمع بين الأ دوات النحاسية والحجرية إلى تسمية عصرهما بالعصر “الكالكوليتى” أى عصر النحاس والحجر أو عصر بداية المعادن كما يسمى أحيانًا ، وهو عصر بدأ منذ أواسط القرن الخامس ق.م على وجه التقريب وامتد فى الإصطلاح التاريخى حتى بداية عصور الأسرات فى نهاية الألف الرابع ق.م .. وظهرت آثار العمران والحضارة خلال هذا العصر فى منطقة البدارى بأسيوط ومنطقة نقادة والعمرى وما حولهما فى قنا وسوهاج ، ومنطقى أبى صير الملق وجرزة عند مدخل الفيوم ، ومنطقة المعادة وطرة وعين شمس عند رأس الدلتا القديمة ، وما زالت بقية آثاره لم تتناولها يد التنقيب حتى الآن .

ونستكمل سطورنا فى الأسبوع القادم إن شاء الله
دُمتم بخير

 

إقرأ أيضاً:-

إتفاقية هعفراه النازية و الصهيونية

فتوات مصر حكايات لا تنضب ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا