مقالات

مافيا الجيوب الخصوصية

بقلم: د. باسم موسى

 

في ظل عالم يعتمد على العلم بشكل كبير لإيجاد فرص العمل، أصبح لزامًا على كل ولي أمر أن يكافح من أجل منح أبنائه أكبر قدر ممكن من التعليم، وفقا لإمكاناته المالية. ولقد أصبح التعليم باهظ التكاليف لا يتحمل أعباءه إلّا من وفقه الله وأعانه من أولياء الأمور. وفي ذات الوقت أصبح سوقًا رائجة للمعلمين، نظرًا لاضطرار الجميع إلى معلم الدرس الخصوصي. وأنبه سلفًا أن مقالي ليس موجهًا إلى كل من ينتمي لمهنة التدريس، ولكنه فقط لمن نما في داخله الجشع واستطال إلى جيوب الكادحين من أولياء الأمور.

الدروس الخصوصية
الدروس الخصوصية

 

عزيزي القارئ، عندما استخدمت في فقرتي السابقة كلمة (سوقًا)؛ استخدمتها لأن التعليم لم يعد فقط، موجودًا بصفة رئيسة في المدارس الرسمية، فيلجأ للدرس الخصوصي المحتاجون إلى معونة تعليمية إضافية في مادة أو أكثر، بل أصبحت هناك مدارس موازية، تعرف واحدتها بالأكاديمية أو ( السنتر ) كما يطلق عليها أصحابها. تتفاوت في طريقة عرض خدمات التعليم وطريقة تقديمها للطلاب، وكذلك تتنافس في أسعار تقديم الخدمة.

وهذه المدارس الموازية، هي الشكل التجاري الحديث لفصول التقوية التي كنا نعرفها في العقود السابقة في المدارس والجوامع الكبرى. إلّا أن المسميات لها أثمان ومقابل. فليس ما يدفع في فصل تقوية سيكون مقبولا في مركز تعليمي والذي بدوره لن يكون مقبولا ليدفع في أكاديمية.

وبالمناسبة، ما هي أساسًا الأكاديمية؟ لقد وجدت بالبحث، أن كلمة أكاديمية، تطلق على المعهد العالي المتخصص في نوع من العلوم. فهل ينطبق ذلك على الدرس الخصوصي أو المركز التعليمي؟ بالطبع لا ولكنه اسم جالب للربح يخفف عنك وطأة الإحساس بالمرارة عند دفع الزائد عن الحد نظير درس خصوصي، حيث أنك قد ألحقت ابنك بأكاديمية!.

لقد أصبح التعليم الآن تجارة رابحة بكل المقاييس، ونحن لا نعيب اكتساب الرزق والسعي إليه بالطرق الشرعية وبغير جشع وطمع ، ولكن نعيب على استنزاف البعض لجيوب أولياء الأمور اللاعقين الثرى من أجل أبنائهم. وللأسف قارئي العزيز، عدد كبير من معلمينا أصبحوا يستنزفون الجيوب بقسوة، مستحلين ذلك ومبررين بصعوبة العيش وغلاء الأسعار. ولكن بحسبة بسيطة تتكشف كل الحقيقة.

ولقد حضرت بنفسي مناقشة لثلاث فتيات حديثات التخرج وهن يتجادلن حول سعر درس الصف الثاني الابتدائي لمن يأتي لتدرسه في بيتها، حيث اقترحت أكثرهن جشعًا 800 جنيه واحتارت أرحمهن ببن 500 أو 600، فما بالنا إذا صارت هذه النفوس الجشع ذات خبرة في المجال، فماذا ستهبش كل منهما من جيب ولي الأمر بعد 5 سنوات أو أكثر؟!

لقد كان أغلب معلمينا في الماضي رحماء، مشفقين، يقدرون لهث ولي الأمر وراء لقمة العيش، وما يعانيه للحصول على جنيه واحد يوفره لتعليم ابنه، وذلك رغم عدم صعوبة كسب الرزق قديما كوقتنا الحالي. ولقد رأيت وعايشت مواقف تؤكد تلك الرحمة والرأفة. ثم عايشت الآن ما يفعله بعض المعلمين بلا رحمة. مما حدا الدولة إلى مكافحة الدروس الخصوصية ومافياتها الصغيرة والكبيرة، سعيا منها لحماية أولياء الأمور ومحاربة لاستشراء جشع الطامعين.

لقد أصبح بعض من ينتمي لكلمة معلم يتاجر حق المتاجرة بمصائر الطلاب. فعلى خلاف معلم العصور الذهبية، أصبح معلم هذه الأيام يكلفك أضعاف التكلفة الحقيقية لأتعابه، ليقينه باحتياجك إليه. فهو الآن مشغول بمجموعات دراسية طوال اليوم لكي تتعاظم الأرباح ولا عيب في ذلك إن كان رحيما. ولكنه بالإضافة إلى الأتعاب الباهظة، يأتي بحديثي تخرج من كليات تربوية وغير تربوية ليقوموا بتصليح واجبات الطلاب، فيوفر هو الوقت لمزيد من المجموعات المدرة لغزير الأرباح، ولكن من الذي يدفع رواتب هؤلاء المعاونين؟

بالطبع أدفع أنا وأنت وكل ولي أمر مسكين، رواتب أطقم تصحيح الواجبات ، بالإضافة كما سبق الذكر لأتعابه المرتفعة ارتفاعا غير مبرر، ناهيك عن بيع (الملازم) التي يبيعها بضعف ثمن الطباعة أو أكثر . إنه يتاجر في العلم والكتب لأولياء الأمور مع تسخيرهم لدفع رواتب معاونيه، فيستريح على حساب جيوبهم. هذا غير من زاد جشعهم على جشع، و يجعلون حصص مراجعة الامتحان لطلابهم، بمقابل إضافي.

أعرف معلمًا أرسل في مطلع الصيف الماضي وقبل جميع المدرسين، رسائل لأولياء الأمور يطالبهم بسرعة الحضور لحجز مكان في أكاديميته لأبنائهم. وعندما جمع الأتعاب من الجميع، بدأ فعلا بشرح المنهج لمدة أسبوع واحد فقط، ثم منح الطلاب إجازة لمدة أسبوع، ثم أوكل لإحدى معاوناته أعباء مركزه التعليمي لمدة أسبوع آخر بحجة مراجعة منهج العام الماضي ( الذي تم وامتحان فيه الطلاب منذ شهور قليلة). فما السر في ذلك السلوك المستغرب؟

إن السر يكمن في أنه بدأ مبكرًا لكي يجمع من جيوب أولياء الأمور الكادحين، المال الكافي لتمويل رحلة المصيف الممتعة له ولأسرته في أحد المصايف الراقية. لقد دفع أولياء الأمور، مبكرا، اشتراك شهر كامل ثم لم يستفد أبناؤهم سوى بأسبوعين فقط تم فيهما شرح جزء من المنهج المقرر الامتحان فيه.

ولقد تابعت منذ بضعة أعوام (حين كانت الأسعار رخيصة) قصة ولي أمر مع أحد معلمي السنوات الإبتدائية الأولى، في منطقة شعبية. كان المعلم قد حدد قيمة 45 جنيها للمادة الدراسية الواحدة منفردة أو مع جميع المواد. وكان ولي الأمر مشتركا لابنه في جميع المواد. وبعد شهرين وجد أن ابنه لا يتقدم في مادتين فقرر أن يلحقه بمركز تعليمي آخر ليدرس المادتين هناك. فقام المعلم بالمركز الأول بخصم 30 جنيها فقط بدلا من 90 من اشتراك الشهر التالي لجميع المواد، حاسبا اشتراك المادة الواحدة ب 15 جنيها فقط بدلا من 45. وعند النقاش أفاد أنه يدرس بالجملة، وأنه بخروج الطالب من مادتين أصبح يحاسبه بسعر قطاعي 65 جنيها للمادة. خبرني بالله عليك قارئي العزيز أي منطق هذا؟ هل زادت مثلا تكاليف الإنتاج أو أعباء التدريس على المعلم أو غير ذلك، لكي يزن بمكيال الجملة والقطاعي في التعليم؟!

إنني أدعو عموم المعلمين قدوة الأجيال، زارعي العلم والتربية والفضيلة في العقول والنفوس، لوقفة مع الضمير. فحي الضمير منهم أدعوه للحفاظ عليه حيا مع نصح غيره بالرأفة بالكادحين. أما من يحتاج ضميره للإنعاش فلنحاول جميعا إنعاشه بالنصح المتكرر وبيان ما يفعله بالمنهكين الموشكين على لعق التراب لكي يعلموا أبناءهم، لعلنا نتمكن بنصحنا من إنعاشه. أما من مات منهم ضميره، فالواجب ترك الميت لموته، ولكن لا نترحم عليه فلا رحمة يستحق من لا يرحم غيره.

ولنحرص دوما على البحث عن معلمين ممن أحيا الله ضمائرهم رافعة رايات الأمانة والرحمة والرأفة، ولنلفت انتباههم إلى أن رأفتهم هي باب الرزق الوارد إليهم وأن عليهم أن يبقوه مفتوحا، حتى يظل الرزق متدفقا ببركة رأفتهم.

ولتتذكر سيدي المعلم أن مصاريف التعليم لا تتوقف على أتعابك أنت وفقط، فهناك معلمون آخرون ومستلزمات وكتب خارجية ومواصلات ومصاريف طعام لمن يبقى خارج البيت طويلا وغيرها من المصروفات التي تعيي ولي الأمر.
إنني أدعوكم معشر المعلمين الذين حادوا عن الرأفة، أن استقيموا يرحمكم الله فتستقيم لكم طيبات ما تنالون من أولياء الأمور بطيب خواطرهم ونفوسهم السامحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا