مقالات

أكذوبة كليات القمة

بقلم: د. باسم موسى

 

مقدمة

في هذه الأيام التي ترتسم فيها الفرحة مشرقة على وجوه الكثيرين؛ أبارك لمن جنى ثمرة تعبه خلال سنة الثانوية العامة بمجموع تمناه، وأبارك لأولياء أمورهم الذين نجحوا معهم وتبتسم شفاههم من فرط سعادتهم لجني ثمرة تعبهم مع أبنائهم.
ها قد أمسكت الحلمَ أيديهم وصعدوا إلى كليات القمة بأنفسهم أو بأبنائهم. فمبارك عليهم جميعا وألف مبارك.

 

ما هي القمة؟

القمة هي أعلى جزء من الشيء الواحد، فقمة الجبل مثلاً هي أعلى بقعة فيه.
ولذلك فنحن نعبر في دارجتنا المصرية المحترمة – وليست تلك البذيئة المنتشرة حاليا على ألسنة بعض الشباب – فنقول “فلان قمة في الأدب، أو قمة في التواضع” لنعبر عن تمتع شخص ما بمقدار من صفة ما؛ أعلى من المحيطين به.
أما الكليات ومجالات الدراسة فهي مختلفة؛ فهل من قمة واحدة لأشياء مختلفة؟!

أكذوبة كليات القمة

كليات القمة

هذا مصطلح حفره المصريون في عقول المصريين، ليعبروا به عن الكليات الطبية والهندسية في المجال العلمي، وكليات القطاع الدبلوماسي والإعلامي في المجال الأدبي.
أما كلية الزراعة والآداب فهي عند المصريبن كليات قاع يوصم من يلتحق بها بالفشل والبلادة الدراسية، وهي عند كثير من المصريين من مؤهلات الزواج بمتعلمة لا أكثر.

 

قمةصناعية

لاشك في أهمية كل مجال من مجالات الحياة ، ومهنة من المهن الحلال، هل تخالفني في ذلك الرأي؟!
ولو تخلينا أن البلدان اكتفت فقط بتخصصات الطب والهندسة، فمن الذي سينظف البيئة التي تدل على مرموقية الطبيب والمهندس، ومن ذا الذي سينسق له الإضاءات الجميلة في مكتبه ومنزله، ومن هذا الذي سيقود له السيارة وهو ذاهب في سفر طويل إلى المصايف والمنتجعات، ومن سيقوم على ورعايته واحتياجاته هناك ومن ومن …
إذا احتقرنا المهن تتلاشى، وإذا تلاشت تلاشت معها رفاهيات القمم.

 

القمة السرابية

هل زرت الأماكن المستصلحة من الظهير الصحراوي؟! ربما نعم وربما أنت من أصحاب الأراضي هناك أو شاهدت على الأقل في التليفزيون، فهل رأيت المساحات الصفراء وقد ارتدت الكساء الأخضر؟ هل رأيت جنات الفواكه، وهل رقص قلبك فرحا بازدهار المحاصيل هناك؟

بينما كان المهندس الزراعي في كل تخصص من تخصصاته يعمل جاهدا كي يحول الصفار إلى خضار، وميتَ الأرض إلى حي؛ وبينما كان يمهد لنا بلوغ القمة في هذا النجاح؛ كنا نحن نعتبر كلية الزراعة في أواخر قائمة الكليات.

وبينما ينظم المحاسب المتمكن دفاتر الإنفاق والموارد ويقدر التكاليف والمكاسب ويفاوض على أسعار ما يشتريه لمشروع الأرض المستصلحة ويحافظ على قروش المالك وملايين، ويعلي راية الربح الذهبية؛ يصنف الأخير كليته في فئة “كلية قاع”.

القمة إذن نسبية تصنعها العقول وفق تحضرها أو تخلفها، فكلما زاد التخلف قل إدراك الفائدة وبالتالي قل الاهتمام بثمار تلك الفائدة ومنبعها. وفي كل مجال من المجالات توجد قمة وسفح ودرجات بينهما. وإن نحن نظرنا بعقل محترَم محترِم لصنفنا الكليات جميعها في فئة القمة، أو قل للإنصاف؛ لألغينا هذا التصنيف العنصري.

 

القمةالسرابية

ليس كل من أعتلى القمة قمة، فها نحن قد سمعنا هذا العام عن مجموعة من راسبي السنة الأولى من إحدى كليات الطب، السنة الأولى التي فيها طالب القمة ما زال مفعما بالجد والاجتهاد والانبهار بالقمة، ويحصل يوميا على جرعات تفخيمية عالية من كل المحيطين؛ ملقبينه بألقاب بينه وبين إطلاقها رسميا سنوات، وعمليا سنوات وسنوات، ورغم ذلك يسقط مترنحا من أعلى القمة. فما مصيره في القادم من السنوات، وفي المستقبل حين يضع الناس صحتهم وأرواحهم بين يديه؟!

أما صاحب الامتياز في السنوات الأربع من كلية الآداب؛ فقد يصير معيدا بالكلية ثم أستاذا يشار إليه بالبنان في المحافل الرسمية الودية، وقد يبني عقولا جديدة يصبح بعضها مستنيرا يعمل في مجالات كثيرة ويصبح على القمة فيها.

إن القمم يا سادة هي في اعتلاء أعالي كل مجال، وليست حكرا على مجال بعينه وفكر معين؛ ثم من الذي علم ذلك المعتلي لكليات القمة حتى وصل إليها، أليس هو خريخ كلية الآداب والتربية؟ ألم يبحث ذلك الطالب في بداية رحلة الثانوية عن القمة في مادة كذا والقمة في مادة كذا حتى يعطيه درسا خصوصيا؟! هل كان في قمة عندما احتجت إليه، ثم دفعته من فوقها عندما قضيت حاجتك؟!

 

عرض وطلب

إن القمة لم تصنع في بلادنا إلا بسبب العرض والطلب، وهب أن الجميع تكالب على كلية الآداب والتربية لكي يصبح معلما؛ فكم سيكون مجموع الكليتين وأين سيكون ترتيبها وأين الطب والهندسة؟

أسباب تكالب الجميع على كليات الطب والهندسة كثيرة نتيجتها بدون خوض التفاصيل سبب واحد تصب فيه؛ وهو الكسب المرتفع.

إذا فهذه الكليات تصنيفها بالأحرى هو (كليات الإقبال المرتفع) وهذا هو التصنيف المناسب والأصح.

 

مازلت مؤهلاً للقمة

أيها الطالب الذي لم يكن من نصيبه كلية من “كليات الإقبال المرتفع”، فات ما فات ولن يرجع بندم أو حزن أو دموع، ولكن الأفضل منه قد يأتي. فقط اجلس وبمصداقية حلل ما حدث في خلال تجربتك في الثانوية، حدد الإيجابيات والسلبيات التي مررت بها ، كيف يمكن تصحيح الأخطاء، وكيف يمكن تعظيم نتائج الصواب، ابدأ في الكلية الجديدة بروح جديدة، روح الهرولة نحو القمة، ضع عينا عليها ليل نهار، والعين الأخرى على الوسائل والمعوقات، ومن مرنا في الطريق، وستصل إن شاء الله إذا كنت صادقا في رغبتك.
ولا تنس أن تلوح لنا من فوق القمة لتكون قدوة نقتدي بها جميعًا.

 

خاتمة

كما رأيت معي عزيزي القارئ، فإنه تتحكم في معدلات العرض والطلب على الكليات عوامل كثيرة، ولكن كثرة الطلب لا تعني الأفضلية المطلقة، فكل المجالات مفضلة لأن مجتمعنا يحتاج جميعها.

لك فرصة دائما أن تكون على القمة، فقط تحتاج أن تريد بصدق، وأن تبدأ الصعود بجد.
مهما بلغت من مكان فأنت تحتاج لمن تعتبره في القاع، وستعرف قيمته إن هو عليك تدلل أو عزز نفسه، أو شح عدده، لذلا فعامل الجميع بلا تمييز وتصنيف فالكل مهم.

رأينا أيضًا إن القمم نسبية، وأنها تكون في الشيء الواحد، ويصعب تحديد قمة واحدة لأشياء متعددة متباينة، ولكن في كل مجال على حده قمم وسفوح.

وفي النهاية نتمنى للجميع الوصول إلى الأماني وأن يحدث في مجتمعنا توازن في الرغبات حتى نزدهر في كل مجال. وإلى لقاء قريب إن شاء الله، وأنت في الطريق إلى القمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا