التاريخ والآثارمقالات

الفيضان وأثره فى حضارة مصر

بقلم المرشدة السياحية : رنا إسماعيل الصيرفى

 

للفيضان أثرهُ فى حياة المصريين بداية من تربة مصر فهى هبة الفيضان، والزراعة المصرية بوجه عام تعتمد على مياه الفيضان، وبالطبع كان للمصريين دور كبير فى تهذيب النهر والإستفادة من الفيضان والإستعداد له من خلال إقامة الجسور وحفر الترع والقنوات والمصارف، وكان لخطر الفيضان أثرهُ فى توحيد الجهود وتنظيم العمل الجماعى ..

وهكذا جاءت حضارة المصريين؛ نتيجة التفاعل الفريد بين سخاء الطبيعة وذكاء وعبقرية المصريين، وهذا يتفق مع نظرية التحدى والإستجابة، ومضمونها أنه كلما تعرض الإنسان لتحدٍ كبير أو مخاطر كبيرة تكون استجاباته على قدر هذا التحدى، فمثلاً الجفاف الكبير الذى تعرضت له مصر القديمة كان بمثابة تحدٍ كبير للمصريين؛ فكانت استجاباتهم اكتشاف الزراعة كما كانت هزيمة 1967 تحديًا كبيرًا استجاب لهُ المصريون بمصر 1973، وهكذا كان خطر الفيضان تحديًا كبيرًا للمصريين استجابوا له بترويض النهر وإقامة السدود والجسور وخلافه ..

ومن هنا كان الفيضان الباعث الأول لروح الوحدة والتعاون بين المصريين لمواجهة الخطر المشترك، وهذا بالطبع ساهم في تدعيم شخصية الجندى المصرى خير أجناد الأرض، ثم كان التغير الكبير عندما أخذت مصر بأسباب الرى الدائم منذ عصر محمد على، وكان هذا عاملاً جديدًا لهُ أثرهُ البالغ في حياة الريف المصرى؛ فالحياض أخذت تتلاشى وتختفى رويدًا رويدًا، والمجال ضاق أمام مياه الفيضان، فأشبعت الحقول بالرى طوال العام، وارتفع منسوب المياه الجوفية فى باطن الأرض . وكان للسد العالي دورهِ المُهم فى حماية البلاد من خطر الفيضان وتوفير المياه، ولكن بقيت مشكلة إرتفاع منسوب المياه الجوفية بسبب الرى الدائم وما ترتب عليها من إرتفاع تشبع الأراضى بالرطوبة وإنتشار المُستنقعات؛ مما ينشر الأمراض ويضعف المحاصيل فى نفس الوقت ويُقلل من غلة الفدان ويهبط بالمستوى العام للإنتاج الزراعى للدولة ..

الزراعة المصرية
الفيضان وأثره فى حضارة مصر

 

وهذا الخطر سيتفاقم أثرهُ مع الزمن وعلينا البحث عن حلول طبيعية مناسبة لمواجهتهِ، وإذا رجعنا لتاريخ بدء الحضارة المصرية فترجع إلى العصر الحجري القديم الأعلى، ويقدر هذا التاريخ بنحو عشرين ألف سنة؛ حيث بدأت صناعة الآلات الحجرية في مصر، وكان لها طابعها الخاص المميز عن بقية صناعات العالم القديم، ثم جاء العصر الحجرى الحديث من نحو سبعة آلاف سنة، وفيه نشأت الزراعة في مصر؛ وهى زراعة نهرية لا تعتمد على الطبيعة فقط، كما في زراعة المطر، ولكن زراعة النهر تعتمد على الفيضان وجهد وتخطيط وتعاون المصريين جميعًا تحت راية واحدة وحكومة قوية، كما تم في هذه المرحلة تربية الحيوانات وليس صيدها فقط، وبدأ الإستقرار والمدينة والسكن فى الوادى، ونشأت الحِرف والمِهن التي تتصل بالزراعة والسكن والإستقرار ..

وكل هذا يستلزم حكومة مركزية قوية لضبط النهر وضبط الناس، فلابد من إقامة القنوات والجسور وشق وتنظيف الترع وإقامة السدود وتبطين جوانب النهر، وهذا يستلزم جمع المال وإدارة قوية ومركزية لتنظيم كل هذه الأعمال وضبط الجهود وتعبئتها للصالح العام؛ ومن هنا المركزية في مصر وحضارات الأنهار ومن مصر بدأت الحضارة الإنسانية المبهرة للعالم أجمع وأسهم فى هذه المركزية أن نهر النيل كان يجرى من الجنوب إلى الشمال فيدفع تيار الفلك في هذا الإتجاه على حين كانت الرياح السائدة فى مصر تأتى من الشمال إلى الجنوب فتملأ أشرعة تلك الفلك وتعينها على التصعيد ضد التيار ..

الزراعة المصرية
الفيضان وأثره فى حضارة مصر

 

وهكذا أصبح مجرى النيل شريانًا للمواصلات والتجارة بين الدلتا والصعيد ولو كان النهر يجرى من الشمال للجنوب وكانت الريح السائدة تأتى من الجنوب للشمال لما إستطاعت مصر تحقيق وحدتها بين الشمال والجنوب؛ ولذلك كانت مصر موحدة وعصية على التقسيم منذ فجر التاريخ فهى بحق كنانة اللّٰه في أرضهِ ..

يمكن تلخيص أهم الدروس المستفادة مما سبق فى النقاط الآتية : أن حضارة مصر أول حضارة في الكون، وهي ليست نتاج الطبيعة وحدها؛ فمصر ليست هِبة النيل فقط، بل هي نتاج هِبة الطبيعة وجهد أبنائها؛ لأن حضارة النهر تستلزم جُهدًا بشريًا كبيرًا فى التعاون والتخطيط والإدارة، وهذا يستلزم عِدة شروط أساسية تبدأ بالوِحدة بين أبنائها لحماية مصالحهم المشتركة، ثم دولة مركزية قوية لضبط وتنظيم النهر والشعب معًا ..

الزراعة المصرية
الفيضان وأثره فى حضارة مصر

 

ومن هنا جاء التجانس بين المصريين والوحدة العريقة من آلاف السنين فمصر عصية على التقسيم مهما حاول الأعداء بمشيئة الله؛ ونتيجة تفاعل المصرى مع ظروف بيئتهُ تميزت الشخصية المصرية بالإنضباط والنظام والتعاون والتخطيط، وهذا ما يفسر خير أجناد الأرض، وخاصة مع أهمية موقع مصر أرض الزاوية وحلقة الإتصال بين دول العالم؛ مما جعلها مستهدفة للسيطرة عليها من جانب القوى الكبرى . وهذا فى حد ذاتهِ كان تحديًا للمصريين وعاملاً مُهمًا زاد من خِبراتهم القِتالية والنِضالية، بسبب الموقع فهم في رباط إلى يوم الدين، فهم أبناء أرض الكنانة، حماها اللّٰه وأكرمها عندما تجلى المولى الكريم على أرضها، وكلم نبيه موسى في الوادى المُقدس طوى في سيناء الحبيبة .

المصادر :- كتاب : النيل فى عهد الفراعنة والعرب المؤلف : أنطون زكرى قسم : التاريخ اللغة : العربية الناشر : دار المعارف تاريخ الإصدار : 01 يناير 1926 تاريخ الإنشاء : 15 مايو 2008

 

إقرأ أيضاً :-

نظم ومعايير فصل الشتاء عند المصريين القدماء

موسم الحصاد وارتباطه بعيد القمح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا