مقالات

لقطات أبوية وتربوية من مولد خير البرية

بقلم: ممدوح الحوتي

أعزائي القراء الكرام طبتم وطاب مسعاكم، وأسعد الله أوقاتكم، وأهلا ومرحباً بكم في مقال جديد، نتحدث فيه حول درس عظيم من دروس المولد النبوي الشريف ألا وهو الدور الأبوي والتربوي في ذكرى مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

تمهيد:

وكيف يكون لنا أن نتعلم ونعمل بما تعلمناه من دروس مستفادة عظيمة وكثيرة حول المولد النبوي الشريف لكن جُلُّ ما أردت أن أركز عليه فقط في هذا المقال هو جانب الدور الأبوي العظيم الذي استدعاني أن أركز عليه وأسلط عليه الضوء ليتعلم منه أبناؤنا من قدوتنا وحبيبنا وشفيعنا وقائدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم

مقدمة:

حين نتحدث عن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حديثنا سيكون حديثٌ عن نشأته كيف كانت، وعن المجتمعِ الذي شَبَّ فيه وتَرَعْرَع، كيف كان يعيشُ ويَحْيا، وعن دعوته العظيمة وكيف أثّرت في هذا المجتمع الذي كان موجودا قبل مولده وحين ولد وعندما بعث إليه وصولا إلى ما بعد تمكنه وفتح مكة نتعلم منها كيف أترت حياته ونشأته صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع وغيرهِ من المجتمعاتِ الإنسانيةِ وغَيَّرت مَجْرَى التاريخ بأكمله.

لقطات أبوية وتربوية من مولد خير البرية
لقطات أبوية وتربوية من مولد خير البرية

للمزيد من المقالات اضغط هنا

اللقطة الأولى :

مولده:-

وينبغي أن نعلم جيداً ونعلم أولادنا أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وُلد كما أثبت كثيرٌ من المُؤرخين في يوم الإثنين “الثاني عشر من ربيع الأول” من عام الفيل، فكانت ولادته بشيرَ خيرٍ ومَطلِع هدايةٍ ومَشرِق نورٍ، ولاعجب فهو دعوةُ خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ” ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ” ، وهو بشارةُ عيسى عليه السلام ” ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ” وُلِد صلى الله عليه وسلم كريمَ المَنبتِ طاهرَ العرقِ طيبَ المنزع شريفَ الأصلِ، تَنَقَلَ في الأصلابِ الفاضلة والأرحامِ الطاهرة حتى كانت الساعة الفاصلةِ في تاريخ الوجودِ ساعةَ ميلادهِ الشريف.

اللقطة الثانية:

أصله الطيب:-

وكما هو معلومٌ بين العرب من قديم الزمان أنّ كرمَ الأصلِ له أحسنُ الأثرِ في سلوكِ المرءِ وخُلُقِه وفي قوله وفِعله، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : “إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة و اصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار ” ولد صلى الله عليه وسلم في بيتٍ هادئ من بيوت مكة المكرمة لاجَلبةَ فيه ولاضوضاء، وليس به مظهر من مظاهر الترف والثراء، بيت لم تعرفه أبصار مكة وأسماعُها إلا مسكنا مصونا وحَرما طيبا للفضيلة والحياة الجادةِ الكريمة.

اللقطة الثالثة:

عناية الله له:-

وهنا معاناة وعناية من الله لهذا الطفل اليتيم وضعته أمه آمنة بنتُ وهبٍ وهي : سيدة أرملة مات زوجها وهي حاملٌ بجنينها، فخرج وليدُها العظيم إلى الدنيا يتيما محروما من حنان الأُبوة، ثم لم تلبث أمُه قليلا حتى لحقت بأبيه ، فحُرِم أيضا من حنان الأُمومة، ولكن عنايةً كبرى تَلقَته ويداً رحيمةً من عالمِ الغيب حاطَته فَهَيأ اللهُ عزوجل له جدَه عبد المطلب الذي هفا إليه في حنانٍ دافق وشوقٍ بالغ حينما بشروه به، فكان أحبَ أحفاده إليه، فهو إبنُ عبد الله الذي افتداه عبدالمطلب بمائة من الإبل وهي أغلى ماكان يملكه أغنياء العرب في هذا الزمان.

اللقطة الرابعة:

نشأته وبركاته:-

والحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى في نشأة هذا الإنسان الذي سيكون له عظيم الشأن.. مات جدُه ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم ذاك الطفل اليتيم في الثامنةِ من عمره فيسّر الله له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمّه إلى عياله، وأحسن كفالته وأحبه حبا شديدا، فبارك اللهُ لأبي طالبٍ في ماله وعياله ببركةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبعدما شبّ وترعرع هذا الإنسان اليتيم عمل بما إشتغل به الأنبياء من قَبلهِ وهو رعي الغنم، وما من نبي إلا وقد رعى الغنم وذلك لحكمةٍ أرادها الله عز وجل وليعتادُ بذلك حسن الرعاية وتصريفِ الأمورِ فيما سيكون راعيا له في المستقبل، إنه سيقود الأمم ويرعى الشعوب سيُحْييها من موات ويجمعها من شتات ويردها بعد شرود، ويؤلف بينها بعد عداوة وبغضاء… وهذا ما بدأت به الحديث في مقالي قاصداً الدور الأبوي ودور الراعي الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد حين كبر وكلف بالدعوة والرسالة وقال في الحديث الصحيح ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته….. إلخ الحديث” الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعده الله منذ مولده وطفولته لهذا الأمر.

اللقطة الخامسة:

حال المجتمع الذي نشأ فيه: –

والحديث عن مولده ونشأته صلى الله عليه وسلم كبير وطويل وعظيم ولكن أكتفي بهذا الجانب عن مولده ونشأته صلى الله عليه وسلم أما عن المجتمع الذي ولد فيه ونشأ فلا يخفى أمره على من يتصفحون السيرة ويقرأون التاريخ، لقد كانت قافلة الحياة بأسرها جائرة السبيل حائرة الدليل كان العالم كله يرزح تحت نير الظلم والطغيان والذل والاستعباد، تتقاسم الدنيا دولتان بغيتان دولة الروم في الغرب ودولة الفرس في الشرق، ولم يبقى من أنوار الشرائع السماوية إلا أشعة حيرى وومَضَاتٍ خافتةٍ يَحتضِر شعاعُها الشاحب، وكان عرب الجزيرة أشتاتاً لا تجمع بينهم عقيدة صحيحة ولا تُؤلف بينهم كلمةٌ جامعة ينغمسون في عماءٍ وجهلٍ وضلال تتقاسم بينهم الأهواء، وتتنازع بينهم المشاحنات عقولهم كليلة ونفوسهم مريضة، تهفو إلى كل حمأةٍ دنسة من الرذائل و نزوات الجسد، يرتكبون المنكرات والموبقات من الظلم ووأد البنات، يشيع فيهم الميسر الباغي والخمر المعربدة والشهوات الفواجر، والفوضى والبغضاء التي تقطع مابين القلوب من روابط و تجعل أيامهم أتون حرب لايخبو أوارهُ ولايخمد لهيبه، كانت أدمغتهم خاوية إلا من الخرافة، وقلوبهم فارغة إلا من الحقد والعداوة كانوا بتلك الأدمغة الفاسدة وهذه القلوب الفارغة يهوون في ذل فاجع ساجدين لأصنام بالت عليها كلابهم و وطئتها أقدامهم، وصنعتها سواعدهم بل وربما في بعض الأحوال أكلتها أفواههم.

أي غباء هذا… وأي جهل مستنقع يعيشون ويتمرغون في كنفه!!!؟

اللقطة السادسة:

حال العرب والعالم :-

والمتأمل  في حال العرب في هذه الحقبة من الزمان يجد أنه كان المجتمع العربي قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم صورةً مصغرة للعالم في ذلك الوقت، فإن العالم كان كل شئ فيه في غير محله وفي غير وضعه الصحيح كما قال الله  عز وجل: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس” فهذا أتمُ وصف وأصدقُ بيانٍ عن حال العرب والعالم قبل الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام.

اللقطة السابعة :

عمله وزواجه:-

إستدار الزمان وبلغ اليتيم مبلِغ الرجال فعمل بالتجارة واشتهر بالصدق والأمانة وحسن المعاملة، ولما بلغ الخامسة والعشرين تزوج من سيدة قومها الشريفة المصون خديجة رضي الله عنها، والتي غمرته بحبها وحنانها وواسته بنفسها ومالها ورزقه الله منها الولد، ولما بلغ الأربعين فإذا به يصطفيه ربه لحمل رسالته، ويختاره لهداية خلقه فينشر في الدنيا إصلاحا وخيرا لم تسمع البشرية بمثله من قبل، ولم يسبقه إليه أحد من القادة والمصلحين فضلا عن الأنبياء والمرسلين، فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم   قوةً غيَّرت مجرى التاريخ وقوَّمت سَيرَ الدنيا، ومكَّنت لقافلة الحياة أن تشُق طريقها الصحيح إلى الوجود.

اللقطة الثامنة :

إشراقته وإطلالته:-

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  وكان كالغيث الذي تقاطر على نبات ذوى.. فرد إليه الحياة، وكان الضوء للضالين الحيارى بصّرهم طريق النجاة فبلغ دعوة الحق إلى الخلق ونشر رسالة الرحمة في العالمين، وأهلّ به على الوجود نورٌ يفيض بالهداية، وأشرق به الأمل للإنسانية في وحدة ومحبة وإخاء. جاء صلى الله عليه وسلم برسالته إلى الناس وكانوا ضعفاء فقوهم الله به، وكانوا فقراء فأغناهم الله به، وكانوا أذلةً فأعزّهم الله ومتفرقين فوحدهم وجمعهم، وجهلاء سفهاء فعلمهم وأدبهم، وتحمل في سبيل ذلك ما لم يتحمله بشر، وأوذي في سبيل ربه فثبت وصبر وبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة  حتى أعزه الله ونصره ومكّن لدينه وقامت به دولة الحق والعدل.

اللقطة التاسعة :

هيبته ومهابته وعفوه:-

 تُرى من كان يدري أن هذا الإنسان الذي نشأ يتيما سينهض بأمةٍ كانت كأنها ميتة ويكون فيها النواة الطيبة لجيل جديد يحمل اللواء ويشيد البناء ؟!! من كان يظن أن هذا الإنسان الذي نشأ بسيطا ستقف وفود العرب أمامه إكبارا و مهابة وإجلالا فلم يتعالى عليهم ولم يأخذه الغرور والزهو  بل كان يخاطب الناس قائلا: ” أنا ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق”.

 اللقطة العاشرة:

النبي القدوة والنموذج القائد:-

انظروا أعزائي القراء الكرام، وتأملوا من هذه اللقطات التربوية العظيمة.. ونحن إذ نحتفي بذكرى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، لذا ينبغي أن لا يكون  هدفنا حينما نكتب أونتحدث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ونُذَكِر بتاريخه وسيرته العطرة أن نسترجع تاريخا حبيبا فحسب، وإنما الهدف : أن نأخذ عظةً  هاديةً وعِبرةً شافية تكون لنا وللناس وللأجيال نبراسا نهتدي به في مراحل حياتنا كلها، فنتعلم من طفولته صلى الله عليه وسلم ونُعَلِم أطفالنا كيف كان يعيشُ ويحيا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم  وهو الطفل اليتيم في أدبه واتزانه وحسن تصرفه، فقد كانت طفولته خير طفولةٍ وكان له عقل الرجال رغم أن قومه كانوا في جاهلية، لكنه كان صلى الله عليه وسلم محفوظا بحفظ الله مرعِيا برعايته، ونتعلم منه في شبابه وفي رجولته الكاملة وبطولته الملهمة الفادية، وفي قوة بأسه وثباته وفي صبره المرير على الكفاح الطويل والنضال الدائم، وينبغي كذلك أن نتأسى به في حبه وإخلاصه وطاعته  لربه ورفقه بأصحابه وتفانيه في تبليغ دعوته ونشره للخير، فإن آفاق الوجود ما أشرقت إلابتعاليمه وسلوكه.

ففي فترة وجيزة ليست بالطويلة وبأضعف الإمكانيات وبحكمة وحنكة الأب والمربي والمعلم والقائد ربى رجالا شُجعانا وفِتيانا أبطالا، كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار لايرهبون الموت في سبيل ربهم والدفاع عن دينهم، أوذوا و أهينوا وطردوا لكنهم تحملوا وصبروا وأظهروا عظيم أخلاقهم التي تعلمها من أفضل مربي وأعظم من كمكملت أخلاقه الكامل المكمل صلى الله عليه وسلم.. فأعزهم الله ونصرهم، ولذا فإن خير مانُحْيي به ذكرى نبينا صلى الله عليه وسلم أن نذكر ماتحلى به من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، والتي بدأت جلية واضحة بثباته الفريد وعزمه الأكيد، حينما تكالبت عليه قوى الشر والبغي والعدوان وهو في أضعف حالاته في موقف الضعيف لكن غير الجبان، لتنال من تصميمه وعزيمته بالوعد والوعيد، فلم يبال بهم وما اغتر بوعدهم ولا اهتز لوعيدهم، ووقف كالطود الشامخ يعلن بثبات وقوة “والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك من دونه “.

حتى وصلت إلى أن مكن الله له ولصحبه ووقف في موقف شموخ وقوة ولكن هذه المرة في موقف المنتصر الشامخ القوي  ليظهر صفحه وعفوه عن أعدائه الذين بالغوا بالأمس القريب في أذيته ونصبوه أشد العداء وأخرجوا صدره وقتلوا أصحابه وأخرجوه من وطنه الحبيب إلى قلبه فلما تمكن منهم يوم الفتح قال :  “ما تظنون أني فاعل بكم قالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء” ونتذكر سخاءه وعطاءه وحنوه الرائع، فقد كان يعطي عطاء من لايخشى الفقر وقد لايجد ما يعطيه فيؤذن لسائله بالاقتراض وعليه صلى الله عليه وسلم الوفاء إنه نموذج عجيب، ومقام رفيع في التكافل الإجتماعي يفوق مقام الأب من بنيه والأخ من أخيه، إنه رسول رب العالمين الذي وصفه ربه بقوله : “وإنك لعلى خلق عظيم ” فلم يترك بذلك مِدحة لمادح والذي قال فيه ربه  : “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم “.

الخاتمة:

وختاما أود أن أقول:  إن الحديث عن الرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم  لاينتهي لأنه في الحقيقة حديث عن الإسلام نفسه، حيث كان صلوات الله عليه تطبيقا عمليا لهذا الدين، كان إسلاما يمشي على الأرض في قوله وفعله في حكمه وقيادته وسلوكه وسائر أموره كما وصفته السيدة عائشة كان قرآنا يمشي على الأرض فلقد كان خلقه القرآن.. لذا وصفه ربه مزكيا أخلاقه صلى الله عليه وسلم فقال: “وإنك لعلى خلق عظيم”.

ولعلنا في مقال لاحق نذكر بعض الدروس والعبر في حياة النبي الرباني و الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم اللهم وفقنا لاتباع هديه وسنته، وأمتنا على مِلته واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا، واحشرنا في زمرته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

دمتم في أمان الله وحفظه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لديك مانع اعلانات فضلآ قم بتعطيله لتستطيع استخدام موقعنا